قرأنا كثيراً عن تأثير العزلة المتراكم على الشعور واللاشعور اليهودي وكانت نتيجة قرون قضاها اليهود في سراديب الجيتو شهوة التدمير وإشاعة الخراب في العالم والتي كنا من أكثر من تحملوا أثرها وما زلنا ، ثقافة الجيتو الضيق المغلق خلقت عند اليهود عقيدة اليهودي والأميين وتبرع أحبار التلمود عبر السنين لصياغتها دينياً فأخذت بعدأ عقدياً لا شفاء منه . قرأنا عن إحساس السجين عندما يخرج من غياهب ظلمات أقبية قلاع الظلم ويرى أشعة الشمس لأول مرة بعد سنين طويلة وربما بعد عقود كنت أقرأ هذه المشاهد التاريخية وأحيانا الروائية وأعيش الحدث وأعيش المتاعب النفسية الرهيبة التي يعانيها هؤلاء ولذا كنت أصدق احيانا عندما أقرأ خبراً عن سجين خرج من سجنه ليعود إليه طواعية ً لعجزه عن التعايش . قرأنا كذلك عن زمن تحرير العبيد في أوربا وامريكا وكيف كان العبد المحرر يرجو سيده ان يبقيه عبداً! لم يعد يتخيل هذا العبد حياةً أخرى لها تبعاتها لها تفاصيلها وتعقيداتها التى لم يألفها وأصبح يفضل حياة الجيتو المغلق شديد الضيق الذي يحياه على حياة الحرية الآدمية . ما أردت قوله ان حالة العزلة الشعورية في أي زمان ومكان وأياً كان شكلها وشخوصها وأبطال العرض فيها تنتج نفس النتيجة الإرتياب من الاخر والخوف من أي مخالف والتربص به وتصبح الدنيا أحد معسكرين من معي ومن ضدي ويظهر نوع غريب من الغرور وتزداد الحالة تعقيداً كلما مر عليها زمن. هذا ما تعيشه المحروسة ياسادة أيامنا هذه وعلينا ان نفهمه جيدا منذ عقود وكيان الدولة يتراخى ويتهدل وتنسحب وتنراجع داخل مساحات غير مرئية داخلنا وتغير الإنتماء وتحول لكيانات ضيقة محدودة تحيط نفسها بسياج فولاذى يعطي شعوراً متوهماً لمن فيها بالامان ويناور ويحاكم على أساس حدود السور الحديدي ويصنع دستورا خاصاً مبنى على الانتماء للكيان الضئيل الضحل فأصبحت الكنيسة دولة داخل دولة والتيارات الدينية الإسلامية في احسن احوالها تشوه لدى أغلبها الحس الوطني ونشئت تيارات إسلامية استنسخت التجربة الشيوعية مع عظم الفارق بينهما فمنذ عقود كان الرفاق الشيوعيين ينشق منهم كل صباح من ينشق تحت شعار المبادئ وتشهر الاسلحة وتسفك الدماء بلا حساب كذا في تيارات اسلامية ترفع شعار الإسلام الصافى الغض العظيم الذي ننتمي له جميعاً ولا يحق لاحد احتكاره او اصطناع بوابات يجلس فيها موظفون يحملون اختاماً ويعطوا تأشيرة مرور لمن يروق لهم ويمنعوه عن آخرين. تحت هذا الشعار حدثت الانشقاقات حتى أصبح الجيتو الواحد جيتوهات إن صح التعبير وكل من يرد عليهم في امر يحتجوا بأنهم ليسوا طيفاً واحداً وانزوى لمساحات صغيرة جداً الإسلام الفطري الرائع العظيم صاحب قيم العدالة والحرية والتسامح الذي لا يصنع تضادا بين انتماء الفرد لأهله أو لوطنه أو لقومه او لجنسه وانتماءه لدينه ولا يصنع عولمة لعادات وتقاليد بلاد عربية لها بيئتها وخصوصياتها وتراعي أن لا علاقة لتقاليد الزي والأكل وكافة التقاليد بشريعة الإسلام إلا بضوابط وأصول تضع فلسفة الإسلام في كل شئ وتحظر تفاصيل قليلة تتعارض مع فلسفته لكنها لا تمسخ شخصية الدولة او اي تجمع بشري أياً كان مسماه بل ترفع شعار "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" وغالب هؤلاء القوم كانهم سلعة مستوردة لا تشم فيها رائحة طمى النيل وأزقة القاهرة وعبق تاريخها ، غير ان جتيوهات الدعوة لم تسفك بينها دماء ولله الحمد بل كانت الخسائر مداداً كثيرا صنع سيلاً من الإتهامات الرهيبة ، ووصل الامر لظهور مجموعة تصرخ ليل نهار أن مجاميع الدعاة والجماعات عبارة عن "فرق"! كلها في النار ! إلا واحدة ، وآسف انى اطلت في الحديث عن هذا النوع من الجيتو . وأزعم ان حتى البلطجة نما لها جيتوهات خاصة وأصبحت لها دولتها وسطوتها بلطجة السنجة والسيف والسلاح الناري وبلطجة اعلامية وبلطجة فردية وبلطجة جماعية وقبلية وجغرافية فنما لدينا إمارات يحكمها امراء ولها قانونها الخاص ولاؤها لمن يدفع ،خلاصة الحديث اننا وصلنا لمرحلة أصبحنا نعيش في دولة مسخ عبارة عن دويلات وانتماءات ومصالح متعارضة وجو موحش وروح مفترسة متربصة غريبة على تاريخنا وكانت هذه الحالة نتيجة طبيعية لتراجع الدولة المصرية تذكرنا بنهاية عصور المماليك وحالة مصر وقت قدوم عسكر بونابرت وكان من رحمة الله ان يخرج الفرج من رحم الشدة وتولد الثورة في أشد الاوقات ظلاماً وطالما قلت ان مصر حبلى بالتغيير وستلده يوماً وأذكر أني كنت يوماً ما أناقش رواية "يوتوبيا " للأستاذ أحمد خالد توفيق مع بعض الشباب بعدما قرأتها وتلقيت إحساس الصدمة التى تخلفه عند من يقرأها وقال أحد الشباب أنه فهم أن السيناريو الخيالى للكاتب ممكن الحدوث فقلت له سنة الله في الكون تمنع ذلك لأنه " الرحمن " الذي لم يخلق الدنيا عبثاً وأن الرواية كتبها صاحبها ليعطينا إحساس بالصدمة من واقعنا وتحفيزاً للانقلاب عليه. بعيدا عن كل ذلك الإسترسال أقول ان الثورة بدأت ونجحت وحطمت كل الأسوار الفولاذية للجيتوهات الضيقة وعاد كيان الدولة المصرية عظيماً ووصلنا لمرحلة الذهول الأول الذي تكلمت عنه في بداية كلامي نعيش الان في مصر حالة من الصراخ يقترب من الفوضى وتيارات دمرها تعذيب السجون الخيالى وتيارات اخرى كانت بعيدة عن أي نشاط سياسي وتيارات كانت قريبة دائما من الحدث بل جزئاً منه ولكن كان لها حساباتها الخاصة بسبب تعقيدات الواقع ونظام حكم كامل فيه بعض الخير او أفراد لا يضيرها أن تنسجم مع نسيج الوطن الجديد وعناصر صالحة عظيمة كانت جزء من النظام لكنها فضلت الحفاظ على تواجدها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ورفضت ترك مقاعدها لمن هم أسوأ ومعارضة ديكورية مصلحية واحزاب لها كاريزما تاريخية بعض الشئ وقطاعات كبيرمن اهل المحروسة تنفض عنها غبار السنين وتخترق أسوار الجيتو وتعيد تشكيلاتها داخل النسيج العام واجيال من الشباب غيب أكثرهم يتملكهم الحماس و وعصابات بلطجة إجرامية وتجارية وسياسية متداخلة المصالح كل هذا الخليط الهائل له مساحات في واقعنا . المهم اننا في المرحلة الإنتقاليه التى نحتاج فيها جهد رهيب للتعايش وإعادة الأنسجة لنسيج واحد ونسيان زمن الجيتوهات المغلقة ونحتاج لنجتاز المرحلة لنشر قيم التسامح لنتحمل اي نتائج سلبية وأي اخطاء جماعية وفردية ونتوقف عن منهج التربص واصطياد الكلمات والتصريحات وان نختلط ونتناقش بدون صراخ وانهامات ونتعاون لمحاصرة كل بؤر الفساد والقضاء عليها ، يا أهل مصر ارحموا بعض واحترموا بعض حتى يرحمنا الناس ويحترمنا العالم وحتى نعبر الجسر بين الجيتو وشمس النهار وانا ضربت مثالأ عملياً على تطبيق دعوتي هذه عندما كان احد الصحفيين يعلق على كلام الشيخ محمد حسين يعقوب عن " غزوة الصناديق " كان الحوار ما بين متعاطف لاعتذار الرجل وهجوم عليه فقلت للجميع الرجل أخطاً خطأ فادح وليست هفوة وزلة لسان بل إشارة لتركيبة فكرية ونفسية كارثية ومحاولته للتبرير ليست علاج ولكن من العدل ان نقول أن هذا الرجل ورفاقه وافد جديد على العمل السياسي فلنحتويهم ونتقبل منهم بصدر رحب كل ما يقال حتى تتغير أفكارهم وتصوراتهم السلبية عن المجتمع .وقصدت بهذا المثال التعميم على الاحداث كلها ، ختاماً يا سادة لا نملك ترف الإختيار ليس امامنا إلا هذه الروح لتقوى العين على تحمل وهج الشمس بعدما ألفت ظلمة القبو