كاتب هذه السطور هو شاهد عيان يحاول أن يقرأ ما حدث فى انتخابات العمادة التى جرت مؤخرا فى آداب القاهرة، فى إطار الصورة العامة لما يجرى بمصر الآن. وهو شاهد عيان أصيل باعتباره أحد المترشحين للعمادة الذين جاء ترتيبهم فى المؤخرة، بعد أن كان كبار الأساتذة المنزهين عن الهوى يرونه فى المقدمة لأسباب موضوعية، حتى إنهم قالوا إن النتيجة التى انتهت إليها هذه الانتخابات جاءت معكوسة، وكان ينبغى أن تأتى مقلوبة رأسا على عقب حتى تعتدل. والحقيقة أننى قد سعيت منذ البداية إلى الدخول فى هذه الانتخابات فرحا مع الفرحين بعودة التجربة الديمقراطية فى مصر بعد أن غابت عنها أكثر من ستين عاما، حالما بأن مرحلة التغيير الثورى التى نمر بها قد تعيننى على تحقيق حلمى فى بدء خطوة أولى على الطريق نحو استعادة مكانة كلية الآداب التى كانت عليها خلال النصف الأول من القرن العشرين. وليغضب من قولى هذا من شاء، وليفرح به من شاء، فليس فى ذهنى أية حسابات. ولذلك فإننى أريد أن أنأى عن شخصنة الموضوع، وأن أقدم قراءتى له. فما الذى حدث؟ حينما أجرى المنظمون الإعداد للقاءات تضم جموع هيئة التدريس بغرض التمهيد لإجراء تلك الانتخابات، أبديت تحفظات على أمور جوهرية، منها أن تحديد الانتخابات يوم 11 يونيو فيه قدر كبير من العجلة والتسرع (وهى عندى تشبه العجلة التى يطالب بها البعض الآن إجراء الانتخابات البرلمانية أولا)، وفسرت ذلك بأن هناك فرحة وتعجلا لدى أعضاء هيئة التدريس خاصة لدى جيل الشباب فى ممارسة التجربة الديمقراطية لأول مرة فى حياتهم. ولكن أهم ما لاحظته وتحفظت عليه فى تلك اللقاءات هو عدم وجود أى معايير أو ضوابط صارمة يتم على أساسها انتخاب العميد، فقلت إن العمادة ينبغى أن تكون لها شروط صارمة، منها على سبيل المثال: 1 أن يكون للمترشح للعمادة إنتاج علمى مرموق، على أن تشهد بذلك سيرة علمية موثقة أو معلومة. فمن يفتقد تلك الخصيصة لا يمكن أن نتوقع منه النهوض بمستوى البحث العلمى أو بمستوى العملية التعليمية. 2 أن يكون للمترشح حضور ثقافى خارج حدود أسوار الجامعة، أعنى ألا يكون إسهامه محدودا فى إطار الإنتاج العلمى الأكاديمى الضيق، بل يمتد آفاقه إلى المجتمع وثقافته، حتى يمكن أن يكون قادرا على ربط الكلية بالمجتمع والتأثير فى ثقافته ووعيه المعرفى. 3 ألا يكون المترشح قد صدرت بحقه أى إدانة من الجامعة تمس سمعته العلمية أو المهنية (خاصة أننا نعلم جميعا أن الجامعة كسائر مؤسسات الدولة قلما تصدر الإدانات، ولا تتبنى سياسة الثواب والعقاب إلا عند الحاجة والضرورة الملحِّة!). 4 أن يكون للمترشح خبرة إدارية ما فى أى جهة علمية أو أكاديمية ما. ولقد كنت أظن أن هذه الشروط تمثل الحد الأدنى فيما ينبغى توافره فيمن يصلح للترشح للعمادة (لأن الوظائف الدنيا، حتى إن كانت وظيفة «البودى جارد» لها متطلبات وشروط!). ولكنى فوجئت بصمت مريب إزاء ما أطرحه لم أفهمه فى حينه، مثلما لم يفهمه أكثر الشباب الأبرياء من جيل هيئة التدريس. وكان هناك إصرار على إجراء الانتخابات على وجه السرعة، دونما التفات إلى ذلك كله، وكأن الديمقراطية هى مجرد صناديق انتخابات زجاجية شفافة ومجرد اقتراع بالتصويت المباشر لملء هذه الصناديق! كل هذا حذرت منه، ولكن لا حياة لمن تنادى! فما حقيقة الأمر المختفية وراء ذلك؟ الحقيقة إنه كانت هناك كتل وجماعات ضغط قد حددت مسبقا من تريده للعمادة فى نوع من النزعات القَبَلية والحزبية. ومن ذلك جماعة 9 مارس التى تريد أن تأتى بواحد من أعضائها (وليس هذا طعنا فى هذه الجماعة ورموزها من أمثال الدكتور أبوالغار أو الدكتور عبدالجليل مصطفى، لأن أعضاء الجماعات لا تمثل رموزها، بل قد تنحرف عنها، تماما مثلما أن الشيوعيين فى سائر أقطار الأرض لا يمثلون ماركس وإنجلز، بل قد لا يعرفونهما، مع الفارق بطبيعة الحال). ومن الكتل والجماعات الضاغطة الأخرى، جماعة الإخوان المسلمين التى تغلغلت داخل أساتذة الجامعة وطلابها، وأولئك قد يعجبون بك أشد الإعجاب، ولكنهم لن يرضوا عنك ما لم تكن منهم. ومن هذه الجماعات أيضا الحرس القديم الذى نال أعضاؤه مكاسب لا يستحقونها، ويريدون الإتيان بواحد منهم ممن يحفظ عليهم مكاسبهم. لقد تواطأ هؤلاء جميعا بالصمت والتغاضى عن إقرار أى شروط موضوعية، لأن الإقرار بهذه الشروط سوف يعنى استبعاد مرشحيهم أو من يريدون أن يأتوا به، وبذلك قادوا جماهير هيئة التدريس نحو توجهاتهم، وكأنهم يتنافسون من أجل منصب سياسى، لا منصب أكاديميا مهنيا. وفى غمار ذلك خرج نفر من معدومى الضمير ليقوموا بتوزيع بيانات (فى الخفاء) عن المرشحين الذين يُراد التشكيك فى مصداقيتهم بالأكاذيب والافتراءات (وهؤلاء يشبهون «البلطجية» التى تمت الاستعانة بهم لتشويه سمعة البرادعى المرشح للرئاسة فى مصر، مع الفارق أيضا بطبيعة الحال). ما أريد قوله باختصار: إن الإصرار على إجراء انتخابات للعمادة دون معايير وضوابط صارمة يشبه إلى حد ما الإصرار على إجراء انتخابات برلمانية قبل وضع دستور للبلاد، لأن الدستور هو الذى ينبغى أن يأتى بالأشخاص الذى يحكموننا ويحدد ملامحهم، وليس العكس. أقول هذا لله وللوطن.