لم أندهش كثيراً بكل هذا الترحيب وكل تلك الحفاوة بالحكم القضائي الأخير بحجب المواقع الإباحية على الإنترنت في مصر ، فالحكم قد سبقته دعوات كثيرة بنفس المفهوم خلاصتها أن حجب تلك المواقع هو المراد من رب العباد لحماية شبابنا المتهور الذي لا يعرف مصلحته تاركاً كل تلك الحياة الزاهرة من حوله مبحلقاً فيما يفسد أخلاقه ويضيع وقته الثمين! ومع كامل الاحترام للحكم وللنوايا الطيبة ورائه هو وغيره من الدعوات بإغلاق تلك المواقع ، فإن الحكم والترحيب الظاهر به لا يعتبر حلاً من الناحية العملية لمشكلة نعاني منها بالفعل ، بالإضافة إلى أن مجرد السير في هذا الاتجاه يجدد المخاوف الموجودة أصلاً من فتح الباب أمام ممارسة المزيد من المنع والرقابة على الإنترنت في مصر ، في الوقت الذي يكافح فيه المصريون للحفاظ على هامش الحريات المتاح والتقليل من الانتهاكات العديدة لتلك الحريات ، والخطورة هنا أن يكون المنع نسبي وبلا ضوابط وكله باسم الفضيلة والأخلاق والحفاظ على الأمن والأمان ومحاربة الأشرار في كل مكان.. عملياً.. فإن تحديد تلك المواقع شيء صعب جداًَ ، فالمواد الإباحية على الإنترنت منتشرة بشكل عشوائي ولا يشترط تواجدها في مواقع إباحية متخصصة بالضرورة ، ولكنها منتشرة بأشكال كثيرة على الإنترنت في الشبكات الاجتماعية ومواقع تبادل الصور والفيديو العادية وغيرها ، ومفهوم (الإباحية) في حد ذاته قد يختلف من مجتمع إلى آخر ، أما المواقع الإباحية نفسها فهي بلا حصر ولا يمكن التأكد عملياً من حجبها بشكل كامل علاوة على وجود طرق عديدة سهلة ومتاحة لفتح أي موقع محجوب. كبار المسئولين في قطاع الإنترنت في مصر صرحوا فورا بأننا لا نمتلك الأدوات الناجعة لحجب تلك المواقع ، وأن كل ما يمكن فعله – وهو ما أجده كافياً - هو استخدام فلاتر مجانية توفرها شركات خدمات الإنترنت لحجب تلك المواقع بشكل خاص لمن يريد. ولا أظن الحكومة صاحبة مصلحة في وجود تلك المواقع كما يدعي البعض وأنها تحافظ عليها لإلهاء الناس كما يقال ، فهذا كلام سخيف وبه تسطيح كبير للأمور. نعم الحكومة مقصرة ومقصرة جداً ولكن بأشكال أخرى غير مباشرة ، أما أن تأخذنا فكرة المؤامرة لهذا الحد فهو الخطأ بعينه. بعض الدول مثل ألمانيا وأستراليا وبريطانيا سنت قوانيناً لمطاردة بعض المواقع الإباحية والتي تُستخدم إجرامياً في دعارة الأطفال مثلا ، وعلى الرغم من الحرية الكبيرة التي تتمتع بها تلك الدول ووجوب التصدي لهكذا جرائم ، فإن تمرير تلك القوانين لم يكن سهلاً وصاحبه معايير وإجراءات دقيقة تضمن عدم استخدام تلك القوانين بما يحجر على حرية مستخدمي الإنترنت عموما في تلك البلاد. وإنه لشيء محمود أن نكافح نحن أيضاً المواقع الإباحية التي تستخدم بشكل إجرامي في بلدنا كما شهدنا مؤخراً في قضية تبادل الأزواج وغيرها. ولا أجد عاقلاً أو سوياً ضد درء المفاسد وحماية الناس من شرور الأفكار ومنكراتها ، ولكن في أي سياق وأي ظروف ، هنا يكون الكلام. مبدئياً لم يثبت عملياً أن الدول التي تمارس حجباً على أي نوع من المواقع ومنها المواقع الإباحية قد حققت الأهداف المعلنة لهذا المنع ، ولنا في بعض دول الخليج عبرة ومثال ، فهناك حلول عديدة وسهلة لمن يريد فتح تلك المواقع أو الحصول على تلك المواد بطريقة أو بأخرى ، وتظهر آثار المنع في تلك المجتمعات على شكل سلوكيات وجرائم شاذة وولع مرضي للحصول على تلك المواد ، وهو نتيجة حتمية للرقابة الأبوية التي تمارسها السلطات في تلك المجتمعات بدرجات مختلفة على آراء وأفكار الناس في العموم مما يخلق بيئات مثالية للانحراف الفكري بكل أنواعه. ولو طبقنا هذا على مصر لوجدناه واقعاً حياً ، فالشباب في مصر والذين يشكلون غالبية تعداد السكان يعيشون تحت وطأة ظروف اقتصادية وسياسية واجتماعية غير طبيعية ، حيث يفقد الكثيرون منهم الأمل في حياة سوية أومستقبل ما وهنا يكون الهرب للمسكنات والمخدرات ومنها تلك المواقع الإباحية. أوليس الأجدى بنا التحرك من أجل تغيير هذا الواقع بدلاً من إقناع أنفسنا بحلول واهية تشبه في عدم جدواها لجوء الشباب لتلك المواقع.. فالمشكلة الحقيقية ليست في تلك المواقع ولا غيرها مما يأتي من بلاد (بره) ، فالمشكلة والحل أيضاً من (جوه) على رأي عمنا الأبنودي ، وبدلاً من الحديث غير المنطقي عن منع هذه الفيروسات الأخلاقية دعونا نناقش كيف نقوي هذا الجسم المريض من الداخل ونعطيه المزيد من المناعة ، واعذروني فإن الحديث ذو شجون.