يتناول هذا المقال ميل بعض المعارضات العربية إلى أن تنقد سياسة الأنظمة بالادعاء أن خط هذه الأنظمة لا يخدم مصلحتها، وكأنها تعرف مصلحة الأنظمة أكثر منها. هذا النوع من الطرح السياسى هو دليل عجز، فليس من واجب المعارضة تقديم النصيحة للأنظمة عن مصلحتها. فالمنطلق هو أن الأنظمة أدرى بمصلحتها من معارضيها. تحسن المعارضة صنعا إذا انطلقت فى نقدها من مصلحة البلد والشعب، وليس من مصلحة النظام الذى تعارض. لا توجد فى السياسة معارضة لذاتها، اللهم إلا نقدا يمارسه عدد محدود جدا من المثقفين الذين يجعلون الفحص والنقد المستمر مهمتهم. ومع أنه يلعب دورا سياسيا إلا أنه غالبا ليس مسيسا. ولكنه يبقى دورا ضروريا مكملا للحركة السياسية. ولكى يلعب هذا الدور يتوجب على أصحابه تجنب ما يجعله يبدو غير جدى مثل الإصابة المنتشرة بالذاتية والسطحية والنرجسية والاستعراضية النقدية. وهى أعداؤه الرئيسية. وأقصد بالذاتية هنا الدوافع الذاتية الفردية مثل الوقوع فى غرام دور بالضحية، والحب والكره والحسد والمرارات والرغبة الفردية بالانتقام من أفراد بعينهم لأسباب فردية. وبالاستعراضية النقدية أقصد الاهتمام ليس بالنقد وموضوعه وقيمته ووظيفته التى يؤيدها، بل بتقديم صورة للناقد عن ذاته تتلخص بأنه متحد دائم وغير مكترث بشىء. فيما عدا ذلك ليس فى السياسة معارضة لذاتها. وطبعا هنالك من يعارض لسبب ذاتى مثل الوصول إلى منصب فى الدولة عبر لفت النظر ودفع النظام إلى محاولة احتواء المعارض بإسناد وظيفة. وقد تجد من يعارض لأسباب وصولية متطابقة مع أهداف المعارضة ذاتها، بمعنى أن مصلحة الفرد الذاتية تنطبق مع مصلحة الحركة التى يمثل عبر ازدياد نفوذها أو وصولها إلى الحكم، وغير ذلك. وهذه دوافع فردية تعتبر مشروعة فى أى عمل سياسى، حسب درجتها. ولكننا لن نخوض هنا بدوافع الأفراد فى إطار الحركة السياسية ذاتها. ما يهمنا فى هذا المقال هو الحركة المعارضة السياسية، أو الحزب السياسى. وفى الدول الديمقراطية التعددية التى تسمح بتداول السلطة تقدم المعارضة برنامجا يتعارض مع سياسة الحكومة. وتدعى أنه لابد من الوصول إلى السلطة لتنفيذه، وذلك إما بالمشاركة فى الحكم أو بانتزاعه. أما فى حالة حركات الاحتجاج وجماعات الضغط فهى تعارض أو تحاول أن تأثر لتحصيل مطالب أو للتأثير على النظام الحاكم دون أن تصل إلى الحكم. فحركة الاحتجاج لا تطرح نفسها بديلا، بل تعارض سياسته مطالبة أن يقوم الحكم القائم بتغييرها وبتنفيذ مطالب حركة الاحتجاج. وتعرف الدول الديمقراطية حركات احتجاج تستخدمها المعارضة السياسية أو تخترقها محاولة تسخيرها كأدوات سياسية بيد المعارضة، وذلك إما لأن الحكم غير قادر على الاستجابة لمطالبها ما يفضح النظام ويعبئ ضده لصالحها، فيتحول الاحتجاج إلى أدوات تغيير، وإما لقناعة لديها بأن النظام إذا تجاوب مع المطالب المطروحة فسوف يسجل تراجعا يضعفه ويمكن تعميق هذا التراجع ليستمر حتى الهزيمة فى الانتخابات المقبلة. وتحاول حركات الاحتجاج أحيانا أن تتجنب تأثير المعارضة السياسية والأحزاب لأنها تخشى رد فعل السلطة التى تدرك الآليات أعلاه. فهدف المعارضة السياسية فى الدولة الديمقراطية هو الوصول إلى الحكم أو المشاركة فيه، ولا معنى آخر لتأسيس وتنظيم حزب سياسى. ولا شك فى أن هنالك أحزابا سياسية طرفية هامشية فى الدول الديمقراطية لا تسعى إلى ذلك، إما لأنها تدعو لقلب نظام الحكم برمته.. وهذا يعنى أنها تسعى للوصول إلى السلطة ولكن من خارج قواعد اللعبة، أو لأنها تسعى فقط لنشر فكر مختلف عما هو سائد بين التيارات المتنافسة. ولكنها فى هذه الحالة الأخيرة تتحول بالتدريج إلى ما يشبه النادى الفكرى أو الجمعية، وحتى الطريقة الدينية فى بعض الحالات. 2. حسنا، يصح ما نقوله أعلاه فى الدولة الديمقراطية. ونضيف أن الحزب السياسى المعارض لا يرى من وظيفته تقديم المشورة للحكم من أجل مصلحة الحكم القائم، بل يفترض أن الحكم القائم يعرف مصلحته، ولكنه يختلف معه على مصلحة البلد. فالحزب المعارض يدعى أن مصلحة الحكم القائم لا تلتقى مع مصلحة البلد. وهو يفضح ذلك ولا يقدم له النصائح. ونستثنى للدقة الحالات المتطرفة جدا، التى يسود فيها إجماع قومى مثل تعرض البلاد إلى حرب أو كارثة طبيعية أو غيرهما. عندها يتشاور الحكم حسب الحكمة التى يتمتع بها مع المعارضة ويتبادلان النصائح فى قضايا أمن قومى عليا متفق عليها نتيجة لطبيعة النظام المشترك بينهما والذى يحتضن تنافسهما. ولكن ماذا بشأن المعارضة فى دولة غير ديمقراطية، أليس هدفها الوصول إلى الحكم؟ لاشك فى ذلك. فالمعارضة فى الدولة غير الديمقراطية الحديثة تنظِّم نفسها طبعا فى حزب أو أحزاب سرية أو شبه علنية لكى تصل إلى السلطة وذلك لتنفيذ برنامجها، بغض النظر أكان ديمقراطيا أو غير ديمقراطى. وطبعا تعرف الأنظمة غير الديمقراطية تغييرات فى الحكم من داخله دون دور مباشر للأحزاب المعارضة، وذلك إما بالإصلاح أو بالانقلاب، يقوم به الحزب الحاكم أو الجيش أو الأجهزة وغيرها، وقد تنتهى بإشراك الأحزاب المعارضة، وقد تنتهى بزيادة قمعها وحظرها. وليس هذا موضوعنا فى هذا المقال. فالحالتان منتشرتان ونتائجهما متفاوتة... ما يهمنا هنا هو حالة الأحزاب المعارضة فى الدول غير الديمقراطية، ومنها الدول العربية. حين يطول وجود الأحزاب فى المعارضة ويثبِّت النظام نفسه بقوة بواسطة توسيع القواعد الاجتماعية المستفيدة منه وخلق قطاعات جديدة مرتبطة به، أو بواسطة قمع واستنزاف قوى المعارضة وتفتيتها بنجاعة أو بواسطة إنهاك كوادرها فى السجون والمعتقلات والمنافى.. فإن المعارضة التى تستمر تثبت نفسها. لكن بعضها يميل إلى قبول صفقة مع النظام الحاكم يمكِّنُه من العمل كحزب معارض على هامش الحياة السياسية، ولكن كمعارضة أبدية تمنع نفسها من التفكير بالوصول إلى الحكم. وكما قلنا أعلاه إذا قبل الحزب خانة المعارض الأبدى وتحول إلى العمل من منطلق الحفاظ على نفسه فى وضع شبه قانونى ولكن بشروط النظام وعدم الاعتراض على النظام فإنه يفقد بالتدريج صفته الحزبية وتسيّسه، فيعيش بقوة الاستمرارية منتظرا فرصا لن تأتى لأنه تنازل فى بنيته وفكره وبرنامجه وعبر شروط اللعبة التى قبلها عن السعى للحكم. ومن أطرف ما تنتجه هذه الحالة خطابٌ سياسىٌ نقدى للنظام، ولكنه يلف ويقدم كرزمة من النصائح لكى لا تثور ثائرة النظام فيغضب، أو يتهم المعارضة بمناكفة النظام. ولذلك تطرح المعارضة خطابها بالقول مثلا إن مصلحة النظام هى أن يغير سياسته، فيقف إلى جانب المقاومة، أو أن مصلحة النظام هى فى البحث عن المشترك مع الدول العربية الأخرى، ومن مصلحة النظام قطع العلاقات مع إسرائيل... وليس لدىّ شك فى أن النظام الحاكم وأقطابه يبتسمون باكتفاء حين يسمعون هذا النوع من النقد. فهو يؤدى خدمة لهم، إذ يسلِّم هذا الخطاب أن منطلق المعارضة هو مصلحة النظام. فهى تجعله مسلّمة وطنية فوق النقاش. أى أنها تجهض مهمتها السياسية والاجتماعية منذ البداية وتتنازل عنها. فتقديم المشورة أمر خليق بمنطلق مستشار وليس منطلق حزب معارض يرغب فى إثبات فساد أو تهافت سياسة الحكم، وعدم قدرة هذا الحكم على تبنى سياسة لصالح المجتمع والشعب. كما تميل القوى السياسية الناقدة غير القادرة على المواجهة إلى التعامل مع الخلاف مع السلطة الحاكمة كأنه خلاف داخل العائلة العربية الواحدة. فهى تميل إلى محاولة التوفيق كأن مهمتها التوحيد بين أنظمة وليس بين الشعوب. ولا بأس بهذا كهدف، فهنالك إيجابيات للتعاون العربى، بغض النظر عن طبيعة الأنظمة. تبرز المشكلة حين تتصرف المعارضة، القومية بشكل خاص، بوصاية مفتعلة لا أساس لها، فى محاولتها أن تبدو وكأنها تأخذ بيد النظام أو الملك أو الرئيس وترشده إلى الطريق الصواب، وكأنه قاصر وهى ناضجة. وعلينا أن نسلِّم بأن نظاما يحكم بلده منذ عقود يعرف مصلحته. والدليل قدرته على الحفاظ على حكمه فترة طويلة بهذا الشكل. أما المعارضة المؤبدة فهى لم تثبت أنها قادرة على الحكم ناهيك عن منح المشورة لمن يحكم. وربما يعرف النظام كيف يحكم ويحافظ على حكمه. ولكن ما يفترض أن يهم الطرف المعارض هو الإثبات وتعبئة الشعب أن حكمه يتعارض ومصلحة الشعب والبلد، كما يتعارض مع المبادئ التى يقوم عليها الإجماع الوطنى أو فهمه لذاته، أو لما يجب أن يكون. ماذا لو رأى نظام ما أن العلاقة مع إسرائيل تقوى علاقته مع الولاياتالمتحدة، وأنه وضع بلده فى ذلك المعسكر إستراتيجيا، وهذه مصلحة نظامه؟ هل تدعى المعارضة أنها أدرى منه بمصلحة النظام، أم تدعى أن سياسته هذه ضد مصلحة البلد والشعب؟. فهل يمكن إقناع رئيس السلطة الفلسطينية الحالى بأن مصلحته تتحقق من خلال التعاون مع المقاومة، بغض النظر عن هويتها الحزبية؟ هو يعرف أفضل من معارضيه أن مصلحته للاستمرار فى السلطة بهذا الخط وهذه السياسة تكمن فى التحالف مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل، وأن تغيير سياسته بحيث تتوافق مع الوحدة الوطنية تعنى تغييره وتغيير الأساس الأمنى الذى عليه هذه السلطة. وإذا كانت هذه هى حال سلطة ليست ذات سيادة، فعن الدول العربية حدث ولا حرج، حيث الخبرة فى الحفاظ على النظام فى سياسته القائمة مستمرة تثبت نفسها منذ عقود. ربما تبنى مصلحة النظام على غير تصور المعارضة لمصلحة البلد ومكانة البلد وموقعه. وكشف هذا الواقع والسبيل إلى تغييره هو دور النقد السياسى المعارض فعلا من منطلقات مبدئية. وعليها أن توضح ذلك حتى عندما تكون ليس بوسعها ولا على أجندتها طرح مسألة الحكم. يبقى المنطلق هو الموقف ومصلحة البلد وفى السعى نحو تغيير السياسة، وهذا لا يمر بتقديم النصائح للنظام الحاكم فى كيفية الحفاظ على مصالحه.