نشر هذا المقال بتاريخ : 22/4/2009 إذا استمر الاسراف فى تصدير الغاز الطبيعى على النحو الذى شرحنا أبعاده فى "الشروق" (5/2 و 12/4/2009)، فمن المؤكد اننا سوف نتجه صوب كارثة محققة نتيجة للنضوب المبكر لاحتياطيات النفط والغاز وتحولنا من مستورد جزئى لكليهما الى الاعتماد الكامل على الاستيراد بفاتورة لا تقل عن 90 مليار دولار سنويا. وهنا نتساءل: كيف نعبر الفجوة المتزايدة فى احتياجاتنا من النفط والغاز الى ان تصبح الطاقة النووية وغيرها من البدائل متاحة وقادرة على سد جانب من هذا العجز؟ بافتراض ان اقامة محطة نووية يستغرق 8 سنوات فى المتوسط فى دولة صناعية تتوفر فيها المقومات المطلوبة، فان اقامة محطة نووية فى مصر، التى ما زالت فى دور الاعداد وبداية الطريق، يمكن ان تستغرق على الأقل 10 سنوات، وبذلك تصبح جاهزة للتشغيل بحلول 2020. ولكى تستخدم الطاقة النووية فى محطات الكهرباء المخطط لاقامتها فانه يلزم اقامة عشرات المفاعلات من حجم جيجاوات (ألف ميجاوات) والتى تتجاوز تكلفة المحطة نحو 3 مليارات دولار يمثل المكون الأجنبى منها اكثر من 70%. ولا يدخل في تلك التكلفة نفقات الوقود النووى وتكلفة التشغيل، كما لا يدخل فيها تكلفة نقل وتوزيع الطاقة الكهربائية الى حيث تستهلك والتى تصل فى العادة الى 50-60% من نفقات التوليد. وفى حالة مصر حيث يحتمل ان يبتعد موقع المفاعل، كموقع الضبعة، عن المناطق ذات الاستهلاك الكثيف من الطاقة الكهربائية، يمكن ان يؤدى طول المسافة وما يفقد منها أثناء النقل الى رفع التكلفة للمستهلك النهائى. ومن المعروف ان الطاقة النووية لا تحقق أفضل اقتصادياتها الا اذا استخدمت لمواجهة حمل الأساس Base load وهو الحد الأدنى لاستهلاك الكهرباء فى أى وقت على مدار الساعة، بينما يستخدم لمواجهة تقلبات الحمل المفاعلات الحرارية التى تدار بالزيت او الغاز او الفحم. ومعنى ذلك انه يوجد للطاقة النووية نسبة من انتاج للكهرباء لا يمكن تجاوزها. لذلك، وبافتراض انها سوف تمدنا بنحو 30% من الكهرباء المستهدف رفع قدرتها المركبة من 17.3 جيجاوات عام 2006 الى 50 جيجاوات بحلول 2027، وأيضا بافتراض ان الطاقة الجديدة والمتجددة (متضمنة الكهرومائية) سوف تغطى 20%، فان النصف الباقى من احتياجات الكهرباء سوف يعتمد بالضرورة على مصادر حرارية كالزيت والغاز. وباضافة الاستخدامات غير الكهربائية من النفط والغاز (وتقدر بنحو 60% من اجمالى استهلاك الطاقة)، فان الاعتماد على النفط والغاز قد لا يقل عن 80% من ذلك الاجمالى، وهو ما يلجئنا لخوض صراع عالمى متوقع لتأمين احتياجاتنا منهما وبأسعار لا تحتمل. على تلك الخلفية ينبغى الاسراع بوضع إستراتيجية شاملة متكاملة للطاقة يتولى الإشراف على تنفيذها المجلس الأعلى للطاقة المشكل عام 2007 برئاسة رئيس مجلس الوزراء، وبعد استكمال أذرعته التنفيذية، وبحيث يؤخذ فى الاعتبار: أولا: وضع وتنفيذ برامج صارمة لترشيد الطاقة ("الشروق" 15/3/2009) وهو ما يقتضى توقف قطاع البترول عن اصدار تصريحات وردية توحى، على خلاف الحقيقية، ان مصر تعوم على بركة من النفط والغاز، وانها تحقق حصيلة كبيرة من صادرات النفط والغاز، بينما الحقيقة ان تلك الحصيلة تمثل صادرات الشريك الأجنبى وان الجانب المصرى صار مستوردا صافيا للزيت والغاز ومكبلا بمديونية كبيرة للشركات مقابل ما تشتريه من أنصبتها لسد فجوة الاحتياجات المحلية. ثانيا: تحجيم الانتاج بما يغطى فقط الاستهلاك المحلى والاحتفاظ بكامل احتياطيات النفط والغاز لمواجهة احتياجات الأجيال المقبلة وتأخير نقطة التحول الى الاعتماد الكامل على استيراد الطاقة. وفى تلك الحالة ستقوم مصر بشراء أنصبة الشركات الأجنبية حتى لو زادت المديونية الأجنبية، ولكنها ستكون مديونية لها ما يبررها، اذ توفر للدولة مصدرا للطاقة أقل تكلفة وأكثر أمانا من النووية. وفى تلك الحالة فليس للشريك الأجنبى ان يقلق على نصيبه مما يحتويه الحقل، اذ تمتد اتفاقيات النفط الى 35 سنة وهى مدة تغطى العمر الانتاجى لأى حقل، فضلا عما يتمتع به من مزايا سخية سبق شرحها ("الشروق" 22/3 و 5/4/2009). ثالثا: وتأتى اقتصاديات الطاقة النووية لتساند توصياتنا، اذ تشير الى ان الطاقة النووية لا تصبح منافسة للغاز فى توليد الكهرباء الا اذا تجاوز سعره 6 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، بينما تتيح الاتفاقيات المبرمة مع الشركات والصادرة بقوانين حق مصر فى شراء ما تحتاجه من أنصبتها من الغاز بسعر لا يتجاوز 2.65 دولارا للمليون وحدة حرارية. هذا بافتراض عدم الاستجابة لمطلب الشركات رفع السعر الى 4.70 دولار بحجة ارتفاع التكلفة، اذ الحقيقة ان الشريك الأجنبى يسترد التكلفة دولارا بدولار من الانتاج قبل اقتسامه، ومن ثم لا يصح استردادها مرة ثانية برفع السعر لمشتريات الدولة التى تستضيفه. رابعا: وبصفة عامة فان الف باء اقتصاديات الغاز – وخاصة فى الدول ذات الاحتياطيات المحدودة كمصر – تجعل الأولوية لاستخدامه محليا. فاذا كان الغاز يعتبر اقتصاديا فى الدول المستوردة، ومنها اوروبا والولاياتالمتحدة، بعد تحميله بنفقات الاسالة والنقل واعادة التغويز، فان الأفضلية تكون لاستخدامه فى الدولة المنتجة التى لا تتحمل هذه النفقات. ومن ناحية أخرى فان أسعار الغاز فى الأسواق العالمية تضعه فى مرتبة أدنى من الزيت رغم تميزه بيئيا واستخداما. واذ يعادل برميل الزيت 5.6 مليون وحدة حرارية فان معادلة سعر الغاز مع سعر الزيت حتى بعد انخفاضه الى نحو 45 دولارا للبرميل تقتضى رفع سعر الغاز الى 8 دولارات للمليون وحدة حرارية قبل اضافة تكاليف الاسالة والنقل، فهل يستطيع قطاع البترول تحقيق تلك المعادلة وخاصة اذا عادت أسعار الزيت للارتفاع كما هو متوقع؟ ان أى سعر للغاز دون السعر الذى يعادل سعر الزيت يعتبر اهدارا لثروة طاقوية نظيفة وأكثر أمانا، وسوف نحتاج لاستيرادها مستقبلا فى ظل صراع عالمى متوقع وبأسعار لا تحتمل. واذ تدرك الدول الصناعية، بقيادة الولاياتالمتحدة، ان الاحتياطيات العالمية للنفط والغاز بدأت رحلة النضوب النهائى ("الشروق" 26/2/2009)، وان هذين المصدرين هما الأقل خطورة والأفضل استخداما فى مجالات مثل النقل البرى والجوى والبحرى، والتى لا تصلح فيها الطاقة النووية، فقد تحولت مواقف تلك الدول ازاء بعض الدول النامية من المنع الى تشجيع استخدام الطاقة النووية تخفيفا لحدة المنافسة على استخدام النفط والغاز. ومن ناحية أخرى فان اقبال الدول النامية على الطاقة النووية، التى يزيد المكون الأجنبى فى تكلفتها على 70%، سوف يوفر لاقتصادات الدول الصناعية مصدرا سخيا للدخل والعمالة، دون ان تخشى فقدان قدرتها على اشباع احتياجاتها من الطاقة النووية التى تملك مقدراتها. وتبقى النصيحة الأخيرة، وهى ان لا تقبل مصر اقامة محطات نووية على أساس "تسليم مفتاح"، وان يكون الهدف الذى لا تحيد عنه تنمية الخبرة المصرية فى مختلف المجالات النووية والتشجيع على اكتساب تلك الخبرة وتوطينها فى مصر.