من كان يصدق أن تقوم في مصر ثورة؟ تساؤل تم تداوله بكثرة بعد أن هب الشعب المصري وخرج عن بكرة أبيه ليعلن عن رفضه لثلاثين عاما من الظلم والاستبداد والاستعباد.. والسؤال رغم وجاهته، فإن إجابته كانت في غاية البساطة، فالشعب المصري المشهور عنه –خطأً- أنه مستأنس لم يكن يوما بمعزل عن ما يجري على أرض وطنه، فهذا الشعب هو أول من قام بثورة في الإسلام في عهد الخليفة عثمان بن عفان ضد حكم الولاة. كما لم يغفل أحد الدور النضالي للشعب المصري فترات الخلافة العثمانية وفي فترات الاحتلال (الفرنسي والإنجليزي)، وفي العصر الحديث لن ننس ما سجله التاريخ حول ثورة 1919 وتظاهرات 9 و10 يونيو 1967 التي خرجت لتأييد جمال عبد الناصر ومطالبته بالتخلي عن قراره بالتنحي ومواصلة النضال ضد العدو الصهيوني، وانتفاضة جميع المدن الرئيسية يومي 18 و19 يناير1977 ضد نظام الرئيس أنور السادات فيما عرف ب(انتفاضة الخبز)؛ بسبب مضاعفة أسعار بعض المواد الغذائية الأساسية ومن بينها الخبز. وفي عهد مبارك المخلوع شهدت الفترة منذ 2005 وحتى قيام ثورة 25 يناير 2011 العديد من الاحتجاجات والتظاهرات والاعتصامات التي خرجت معظمها لتعبر عن حالة القهر التي يعاني منها الشعب المصري على اختلاف فئاته. كان لابد من هذه المقدمة حتى ننفي عن شعبنا سبة لم تكن يوما فيه.. فالشعب المصري إذا غضب انتفض وإذا انتفض حقق ما يريد، وكان لافتا في كل تحركات الشعب المصري أنه كان دوما يسير بقدميه (المسلم والمسيحي) ولم يكن يوما أعرجا ولم يهمش يوما فئة على حساب فئة ولم نشعر في يوم من الأيام أن بيننا شاذ أو غريب عنا.. لم نفكر يوما أن هذا مسيحي أو أن هذا نوبي أو هذا بدوي.. كلها مسميات ورثناها من أنظمة فاسدة كانت تتلاعب بنا وتصدر بعض الملفات (وعلى رأسها الملف الطائفي) لخدمة مصالحها الشخصية وحماية وجودها على كرسيّ الحكم. وعندما قامت الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير 2011 كان رهاننا على قدرتنا على التغيير وتقويم المسار المعوج منذ ثلاثون عاما، وكان رهاننا الأكبر بعد تخلي مبارك عن حكمه أن ننجح في إدراتنا لأمورنا، فاليد التي كانت مقبوضة على مطالبها وهي معتصمة في ميدان التحرير لم تكن ترضى أن تمتد إلا بالخير.. واليد التي هدمت نظاماً فاسداً أقسمت أن تبني نظاماً ديمقراطيا وحكما رشيدا يرعى حقوق المواطنة ويضمن تطبيق مفاهيم العدالة الاجتماعية. ومع إصرارنا على الاستمرار حتى تتحقق المطالب المشروعة للثورة بسرعة القضاء على الفساد ومحاكمة رموزه خرجت علينا ظواهر سلبية أُلصقت بالثورة وأثرت على شعبيتها، تمثلت في: -مطالب فئوية واحتجاجات واعتصامات وتهديدات بتعطيل العمل في كل المؤسسات الحكومية المطالبة بتحسين الأوضاع. -اعتصامات في بعض المحافظات احتجاجا على حركة المحافظين، وعلى رأسها ما حدث بمحافظة قنا. -ظهور التيارات المتشددة التي لم تكن يوما جزءا من الحياة في مصر ولم يكن لها أي دور قبل الثورة. -مصادمات طائفية بأطفيح وبضاحية إمبابة نتج عنها قتل وترويع وهدم لدور العبادة. -فتح ملف المتحولون دينيا بصورة غوغائية، والتعامل معه بمبدأ (بيدي لا بيد عمرو)، دون الرجوع لذوي الاختصاص. -معالجات إعلامية خاطئة تركز على كل ما هو شاذ وكل ما من شأنه أن يزيد من حالات الاحتقان، خصوصا الاحتقان الطائفي. -استمرار حالات الانفلات الأمني وغياب ملحوظ لرجال الشرطة (غياب في العدد وفي الأداء)، وما تبعه من زيادة معدلات الجريمة وانتشار البلطجة في الشوارع. إن التعامل مع الأزمة لا يتم بصورة صحيحة إلا بالاعتراف بها، ونحن في وضع يحتم علينا أن نرفع رؤوسنا من تحت الرمال وننظر بموضوعية لنقيم ما نحن فيه، فالثورة في أخطر مراحلها، والمسار الثوري يتطلب تصحيح الأوضاع من حين لحين حتى لا نتعثر في طريقنا الذي لا يجوز أن نحيد عنه.. فالأمر يتطلب أن نتعامل بجدية مع كل التحديات التي ذكرت، ورأيي أن تعاملنا لا بد أن يرتكز على المنطلقات التالية: -الضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه أن يعبث بأمن الوطن والمواطنين، وإجبار جهاز الشرطة على العودة السريعة لعمله الطبيعي في حماية المواطنين ومحاسبة المقصرين منهم. -إعمال القانون وسرعة البت في أحكامه على كل المخالفين، وإحالة كل الملفات الشائكة للقضاء (كقضية المتحولين دينيا، وهدم دور العبادة) ومنع التلاعب بها حفاظاً على الأمن العام وعلى النسيج الوطني. -تشكيل لحان متخصصة تابعة لرئاسة مجلس الوزراء لبحث ودراسة المطالب الفئوية ومدى مشروعيتها وتجريم كل ما يعطل سير العمل. -اضطلاع الإعلام بمسئوليته الاجتماعية وعدم خوضه في المسائل التي تضر بأمن المجتمع وتهدد استقراره، وتركيزه على كل ما يحفز عجلة الإنتاج وتنمية البلاد. -الضغط لمحاربة الفساد بمواصلة الإنتاج ومحاربة البيروقراطية وممارسة الرقابة الذاتية والمجتمعية على كل ما يدور حولنا وتفعيل دور المشاركة المجتمعية في عمليات التنمية واستغلال الطاقات المهدرة في خدمة الوطن. وختاماً، أخشى أن يؤثر تسرعنا ورغبتنا السريعة في التغيير على مضمون هذا التغيير، كما أخشى أن نترك مهمتنا الأساسية في إعادة بناء مصر القوية ونتفرغ لمتابعة أمور هامشية تعطل مسيرتنا نحو التنمية وبناء اقتصاد جديد. ثم أن عامل الوقت ليس في صالحنا لا بد أن نفكر جديا في الخروج من المأزق ونبدأ في تنمية بلادنا، حتى لا تفقد الثورة شرعيتها وشعبيتها.. يجب علينا إعطاء الفرصة للتغيير والتطوير، يجب أن نمهل الحكومة الحالية ونعطيها فرصتها الكاملة ونحاسبها في نهاية المطاف، ويجب إعطاء الفرصة لكل من يتولى منصباً جديداً ولا نرفضه لمجرد الرفض أو لمجرد أنه كان حزءًا من النظام السابق، فطريقة الحساب والمحاسبة لا بد أن تكون مختلفة في هذه المرحلة.