وظائف خالية ب وزارة المالية (المستندات والشروط)    قفزة جديدة ب160 جنيهًا.. سعر الذهب اليوم الأحد 19 مايو 2024 بالصاغة (آخر تحديث)    بعد ارتفاعه.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 19 مايو 2024    عماد النحاس: كولر أدار المباراة بشكل متميز.. وغربال كان متوترًا    إجراء من «كاف» ضد اثنين من لاعبي الأهلي عقب مباراة الترجي    «لهذا السبب انفعلت على الحكم».. أول تعليق من كولر بعد تعادل الأهلي أمام الترجي    «الداحلية» تكشف تفاصيل قيام قائدي السيارات بأداء حركات استعراضية بموكب زفاف بطريق «إسماعيلية الصحراوي»    أوكرانيا تُسقط طائرة هجومية روسية من طراز "سوخوى - 25"    رئيس الموساد السابق: نتنياهو يتعمد منع إعادة المحتجزين فى غزة    نقيب الصحفيين: قرار الأوقاف بمنع تصوير الجنازات يعتدي على الدستور والقانون    مدرسة ناصر للتربية الفكرية بدمنهور تحصدون المراكز الأولى في المسابقة الرياضية    صرف 90 % من المقررات التموينية لأصحاب البطاقات خلال مايو    مرياح: حظوظ الترجي أكبر من الأهلي في لقاء القاهرة.. ولدينا ما يكفي للعودة بالكأس    مدافع الترجي: حظوظنا قائمة في التتويج بدوري أبطال أفريقيا أمام الأهلي    الشعباني: الزمالك سجل في المغرب فلماذا لا نسجل في القاهرة؟    يسبقه الأهلي فقط.. الزمالك يطارد اللقب القاري ال14 أمام نهضة بركان    دييجو إلياس يتوج ببطولة العالم للاسكواش بعد الفوز على مصطفى عسل    تتعليمات موسم حج 1445..تأشيرة العمرة لا تصلح لأداء الفريضة    حالة الطقس اليوم الأحد 19 - 5 - 2024 في مصر    رقصة على ضفاف النيل تنتهي بجثة طالب في المياه بالجيزة    شافها في مقطع فيديو.. سائق «توك توك» يتهم زوجته بالزنا في كرداسة    اليوم السابع يحتفى بفيلم رفعت عينى للسما وصناعه المشارك فى مهرجان كان    ماجد منير: موقف مصر واضح من القضية الفلسطينية وأهداف نتنياهو لن تتحقق    الفنان محمد بوشريح يناقش قضايا اجتماعية في فيلم «صحراء الواحة» لتسليط الضوء على المجتمعات    خريطة تلاوات القرآن المجود اليوم الأحد بإذاعة القرآن الكريم    أخذتُ ابني الصبي معي في الحج فهل يصح حجُّه؟.. الإفتاء تُجيب    تزامناً مع الموجة الحارة.. نصائح من الصحة للمواطنين لمواجهة ارتفاع الحرارة    بذور للأكل للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    الهبوط والعصب الحائر.. جمال شعبان يتحدث عن الضغط المنخفض    على متنها اثنين مصريين.. غرق سفينة شحن في البحر الأسود    تونس.. ضبط 6 عناصر تكفيرية مطلوبين لدى الجهات الأمنية والقضائية    من 35 ل 40 ألف جنيه.. ارتفاع أسعار الأضاحي بالإسكندرية 2024    تحليل موعد عيد الأضحى في عام 2024: توقعات وتوجيهات    حريق بالمحور المركزي في 6 أكتوبر    مصرع شخص في انقلاب سيارته داخل مصرف بالمنوفية    إعادة محاكمة المتهمين في قضية "أحداث مجلس الوزراء" اليوم    محمد غنيم: القيادة السياسية حولت بني سويف إلى طاقة نور في الاقتصاد المصري    الحكومة ترد على «تخفيض سعر الفائدة في البنوك خلال الأيام المقبلة» (فيديو)    هل يعني قرار محكمة النقض براءة «أبوتريكة» من دعم الإرهاب؟ (فيديو)    مصر في 24 ساعة| موجة حارة تضرب البلاد.. وهجوم للغربان في الإسماعيلية    مسلم يطرح أحدث أغاني ألبومه الجديد «اتقابلنا» (تعرف على كلماتها)    «فايزة» سيدة صناعة «الأكياب» تكشف أسرار المهنة: «المغزل» أهم أداة فى العمل    «المقصورة الملكية».. المهابة تعانق الجمال فى استاد الإسكندرية الرياضى    حدث بالفن| حفل زفاف ابنة الفنان سامح يسري ونجوم الفن في عزاء زوجة أحمد عدوية وإصابة مخرج بجلطة    وزير روسي: التبادلات السياحية مع كوريا الشمالية تكتسب شعبية أكبر    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    تعرف علي حكم وشروط الأضحية 2024.. تفاصيل    شهداء وجرحى جراء القصف الإسرائيلي المستمر على مناطق متفرقة في قطاع غزة    البيت الأبيض: مستشار الأمن القومي الأمريكي سيبحث مع ولي العهد السعودي الحرب في غزة    «غانتس» يمهل نتنياهو حتى 10 يونيو لتحديد استراتيجية واضحة للحرب.. ورئيس الحكومة يرد: هذه هزيمة إسرائيل    نقص أوميغا 6 و3 يعرضك لخطر الوفاة    «التصنيع الدوائي»: أزمة اختفاء الأدوية بسبب ارتفاع تكلفة الصناعة على الشركات    أدعية مستحبة خلال مناسك الحج.. تعرف عليها    وزير التعليم: التكنولوجيا يجب أن تساعد وتتكامل مع البرنامج التعليمي    نموذج إجابة امتحان اللغة العربية للصف الثالث الإعدادي محافظة الجيزة    إطلاق أول صندوق للطوارئ للمصريين بالخارج قريبًا    «الأوقاف» تفتتح 10 مساجد بعد تجديدها الجمعة المقبلة    مفتي الجمهورية: يجوز التبرع للمشروعات الوطنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حمى الخنازير المصرية وعلامات نهاية الحضارة
نشر في الشروق الجديد يوم 23 - 05 - 2009

«اقتل الخنزير، اقطع رقبته، اسفك دمه». الصيحة المحمومة فى رواية «سيد الذباب» لا تفارق الذاكرة مهما مرت السنوات على قراءة المؤلف ذائع الصيت للكاتب البريطانى وليام جولدنج. صيحات أو قل هتافات «اقتل الخنزير» فى رواية جولدنج تؤذن بانتقال مجموعة من التلاميذ الإنجليز، وقد سقطت بهم طائرة فى جزيرة غير مأهولة، من عالم الحضارة إلى عالم الهمجية. رواية جولدنج الرمزية (1954) هى سرد مروع وعميق الأثر لعملية الانتصار التدريجى لغريزة الوحشية الكامنة فى البشر على غريزة الحضارة عندهم، فيهوى العقل وتنهار نوازع التعاطف الإنسانى أمام الخوف الغريزى اللاعقلانى، والقسوة والأنانية والنزوع للوحشية. الصيحات الهستيرية للتلاميذ تكشف عن مزيج من النشوة والذعر والعنف، عن إلحاح الحاجة للاحتماء بالقطيع من مخاطر غير مرئية أو مدركة، وعن نزوع لا يرد إلى العنف والوحشية درءا لتلك المخاوف.
يصعب نسيان صيحة التلاميذ فى «سيد الذباب»، مهما انقضى من زمن على قراءة الرواية، فالواقع المعيش يستدعيها طوال الوقت، الحضارة والعقل ومشاعر التعاطف الإنسانى ونوازع الرحمة والرأفة المتأصلة فى البشر كثيرا ما تبدو كما لو كانت قشورا سطحية، تقبع تحتها أشد النوازع بدائية ولاعقلانية وتوحش. قتل الخنزير فى رواية جولدنج رمز لقابلية البشر للنكوص إلى الهمجية بين عشية وضحاها، بين لحظة وأخرى. وخلال الأسابيع الماضية تحول الرمز عندنا إلى واقع، وصار الواقع رمزا. مذبحة الخنازير المتواصلة فى أنحاء مصر منذ أواخر الشهر الماضى وحتى يومنا هذا تكشفت عن وحشية وتوحش فائقين (انظر: فيض الصور فى هذه الجريدة وغيرها، وشرائط الفيديو على الموقع الإلكترونى ل«المصرى اليوم»). غير أن تلك الوحشية، التى دفعت برئيس مجلس الشعب نفسه للتعبير عن استيائه من سلوك أجهزة دولة طالما قاتل دفاعا عنها، تكشف بدورها عما هو أعمق وأبعد مدى. فحقيقة مذبحة الخنازير الجارية تنطوى على بعد رمزى مروع هو ذلك الماثل فى الاتجاه المتنامى للدولة والمجتمع فى مصر للنكوص الحضارى، للسقوط فى الهمجية.
قلت فى مقال سابق إن المجتمع المصرى اليوم أشبه ما يكون ب«حالة الطبيعة» (أى حالة ما قبل الحضارة)، كما تصورها الفيلسوف البريطانى توماس هوبز، وهى التى وصفها بأنها حالة «حرب الجميع ضد الجميع»، حيث الحياة «موحشة وفقيرة ورديئة وهمجية وقصيرة»، وكلها تصلح صفات لحياة المصرى المعاصر ربما باستثناء قصر العمر، اللهم إلا إذا قادتك الأقدار إلى عبارة من عبارات ممدوح إسماعيل أو قطار من قطارات الدرجة الثالثة على خط الصعيد، أو أوقعك فى طريق ضابط شرطة عصبى المزاج، أو فى غرام رجل أعمال بارز.
ولسنا بحاجة لمجزرة الخنازير للتدليل على ظاهرة النكوص الحضارى عندنا، بل يكفينا أن نلفت النظر إلى طريقة «المواطن» المصرى فى قيادة سيارته أو أتوبيسه أو سيارة نقله، رجالا ونساء، شبابا وشيوخا، أصحاب البى إم والمرسيدس مثلهم مثل أصحاب سيارات «اللى يحب النبى يزق» الكل، يصعب أن نعثر على وصف لسلوكهم المرورى أبلغ وأكثر دقة من وصف هوبز لحالة الطبيعة: «حرب الجميع ضد الجميع». وليس فى الأمر هذرا، فلقد أصبحت مصر المحروسة من أعلى دول العالم فى معدل حوادث الطرق نسبة إلى عدد المركبات، وفى معدل الوفيات نسبة إلى عدد الحوادث. (وربما كان من الأحرى بمجلس الشعب اتخاذ قرارا بإعدام السيارات وقد صارت خطرا داهما على الصحة العامة فى البلاد).
غير أن مظاهر الهمجية وتغييب العقل وإهدار العقلانية والنزوع إلى التوحش والوحشية تتفشى فى شتى المجالات، حتى ولم تكن واضحة للعيان بمثل وضوح حالة الجنون الجماعى التى نراها يوميا فى طرقاتنا: التعذيب الوحشى الذى صار روتينا يوميا فى أقسام البوليس وغيرها عشرات من مقرات الاحتجاز الحملات الأمنية فى الأحياء الشعبية والقرى وهى أشبه بغزوات المغول منها بتحركات جهاز يفترض انه منوط بالحفاظ على القانون العنف المجتمعى المتنامى وبالذات العنف ضد المرأة وضد الأطفال مهرجانات التحرش الجنسى فى الأعياد وفى غيرها من المناسبات وبدون مناسبة العنف الدينى والطائفى وتصاعد معدلات الهجمات على الأقباط المصريين وعلى مساكنهم وأحيائهم وكنائسهم.
تلك هى الأمثلة الأمضى والأشد فجاجة لحالة التحلل الحضارى والمجتمعى التى نعيشها فى مصرنا هذه الأيام، ومنذ سنوات، وليست مع ذلك هى الصورة كلها.
فلنأخذ مذبحة الخنازير مثالا ليس مجرد للوحشية التى اتبعت فى إعدام الخنازير، وليس مجرد لأن الأغلبية الساحقة من المجتمع ومن نخبته السياسية والإعلامية والثقافية قد أبدت إما عدم اكتراث أو حتى ترحيب، بل وفى أحيان انتشاء، بتلك المشاهد الهمجية اليومية والمتواصلة لمدة قاربت على الثلاثة أسابيع، وهو ما يشير إلى حالة مخيفة من تبلد المشاعر وتحجر الأفئدة.
فليس أقل فجيعة من كل هذا واقع أننا شهدنا ومازلنا عملية منهجية قوامها الإلغاء التام والمطلق ومع سبق الإصرار والترصد للعقل، إلغاء شارك فيه كل من هم منوط بهم تقرير مصير البلاد: مجلس الشعب، حكومة ومعارضة، مجلس الوزراء، أجهزة الأمن، المحافظون وأجهزة الحكم المحلى، وعدد غير قليل من الخبراء ومن كبار المثقفين والكتاب، وأخيرا وليس آخرا، سلطتنا الرابعة الغراء. أن يتفق كل هؤلاء على توقيف عقولهم، وتغييب عقولنا لهو أمر مفزع للغاية ليس لآثاره المباشرة، رغم فداحتها، ولكن لمغزاه. فإذا كنا قابلين لإلغاء عقولنا إزاء ذبح 300 ألف خنزير، فما الذى يمنع إلغاءها مرة أخرى، وفى مناسبة أخرى، إزاء ذبح 300 ألف من بنى آدم؟
المسألة ببساطة، وليس ثمة مجال للمكابرة فى هذا، أن المذبحة الكبرى الجارية على أرض مصر منذ 29 أبريل، والتى جعلت منا أضحوكة العالم، ليس لها أية فائدة على الإطلاق فيما يتعلق بدرء إنفلونزا إتش1 إن1، المصطلح عليها بإنفلونزا الخنازير. هذا هو إجماع العلماء والخبراء والمنظمات الصحية العالمية والمحلية فى أنحاء العالم: لا يوجد أى دليل على أن نوع الإنفلونزا الذى أصاب حتى صباح الجمعة 22 مايو 11 ألف و186 شخص (وفقا لمنظمة الصحة العالمية)، وأفضى إلى وفاة 143 شخصا، فى أنحاء العالم، لا يوجد أى دليل على أن هذا النوع من الإنفلونزا يصيب الخنازير أصلا، وبالأحرى فلا يوجد أى دليل على انتقاله من الخنازير إلى الإنسان. الفيروس ينتقل من إنسان إلى إنسان وعندما يدخل مصر، فلن تكون للخنازير من مختلف الجنسيات، أمريكية أو مكسيكية أو أوروبية أو «طيبة الذكر» المصرية، علاقة من أى نوع بدخوله إلى البلاد، وإنما سيأتى مع سائح آت أو مصرى عائد عبر مطار أو معبر أو ميناء. (هناك بيننا بطبيعة الحال من سيرفض تصديق إجماع العلماء فى أنحاء العالم، إما بدعوى أنهم متآمرون على الإسلام، أو بدعوى أننا هنا فى مصر وقد «دهنا الهواء دوكو»، و«خرمنا التعريفة» وغير ذلك من الإنجازات، أعلم من غيرنا فى هذا الأمر كما فى غيره من الأمور).
300 ألف خنزير تقتل بأبشع الأشكال وأكثرها وحشية فى غضون أسابيع (لا يهم فهم خنازير!)، حوالى 100 ألف مواطن مصرى يحرمون من مصدر رزقهم (لا يهم فأكثرهم مسيحيون!)، الدولة تتعهد بتعويضات بين 100 و500 جنيه لكل رأس، أى بما قد يتجاوز 75 مليون جنيه (لا يهم فالدولة تعوض الأغنياء فقط، أما الفقراء فلهم الأمن المركزى!)، جثث ال300 ألف خنزير المتحللة تهدد بكارثة صحية وبيئية (لا يهم فالأعمار بيد الله أولا وأخيرا!).
ولكن يبقى السؤال: لماذا؟ لا إجابة.
إلغاء العقل وتغييبه، الشراسة والقسوة والتعصب الطائفى والهوس الدينى كلها علامات بالغة الدلالة على التحلل الحضارى، على النكوص عن الحضارة، على الارتداد إلى الهمجية. وكنا قد ظننا لفترات طويلة أن شيخوخة نظام سياسى ما تصل بالمجتمع إلى لحظة يختار فيها بين بديلين لا ثالث لهما، هما الإصلاح أم الثورة، ولكن كشف لنا التاريخ الواقعى عن بديل ثالث، هو التحلل، تحلل النظام، تحلل جهاز الدولة، وتحلل المجتمع. لم تكن صورة هوبز للمجتمعات البدائية صائبة، فى واقع الأمر، فلقد كانت تلك المجتمعات تتمتع بدرجة عالية جدا من التضامن الاجتماعى بين أفرادها، وهو ما كان يصعب على فيلسوف فى القرن الثامن عشر أن يعرفه، نظرا للمستوى المحدود للغاية لتطور المعرفة العلمية فى هذا المجال حينها. ما كان هوبز يصفه فى واقع الأمر هو صورة المجتمعات الحديثة حين تغيب الدولة الحديثة صورة العراق، وأفغانستان، والصومال اليوم، وليس فيما قبل التاريخ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.