ربما يتفق معي كثيرون أن مفهوم الوطنية ظل دفيناً بأعماقنا طويلاً، وكنا نستجديه أن يخرج حتى ولو بتشجيع مصر في مباره لكرة القدم! وعلى الرغم من أن جميعنا تربى على أرضية أن "مصر أم الدنيا" وأنها شعاع النور الذي أضاء ظلمات الإنسانية، إلا أن حالة "الهوان" التي كنا نحياها جعلتنا نحيا على أرضية "عفنة" وفي ظلمة موحشة. نتيجة لذلك، وجدنا أنفسنا نعاتب الوطن فينا، فبعضنا آثر الصمت البشع، وبعضنا تبنى النكتة علّها تواسينا، وآخرون عانوا مخاض القصيدة (قصيدة جحا لهشام الجخ مثلاً)، ومنا من عاتب مصر بترديد بعض كلمات أغنية "أزاي" لمحمد منير، وأشكال العتاب كانت عديدة. وليقيني أن هذا الشعب عظيم وتحمل ما لا يتحمله أي شعب من شعوب خلق الله، تتبعت تاريخه منذ فجر التاريخ، بدءً بالعصر الفرعوني مروراً بالعصر البطلمي ثم الروماني ثم الإسلامي بدويلاته المختلفة، ختاماً بثورة 25 يناير 2011. وأكثر ما لفت انتباهي عبر هذا التاريخ العريق المديد، أن هناك - فقط - ثورتان يطلق عليهما "شعبيتان". أي قام بهما الشعب بجميع فئاته العمرية والاجتماعية. وكانت ثانيهما ثورتنا الحالية على مبارك التي مازالت في "طور" الحضّانة بعد مخاض "عسير" نسأل الله أن يتمها خيراً. أما أولهما فكانت على الملك بيبي الثاني الذي تولي العرش وكان عمره 6 سنوات وحكم نحو 94 عاماً (من 2278 حتى 2184 ق. م. والتاريخ محل جدل لدى المؤرخين)، فتوفى عن 100 عام، حيث كانت أمه وصية عليه في البداية. وخلصت بدرس تاريخي، أن هناك قواسم مشتركة بين الثورتين. فعلى سبيل المثال، كانت بداية الحكم للملك بيبي جيدة في البداية ولكن لطول مدة الحكم، وكبر سنه في النهاية، و تسليم نفسه للمنافقين من حوله، شاع الفساد وأهملت القوانين وعمت البطالة وزاد السلب والنهب، وبات غير مبالي بأنات الفقراء و ما يعانون من قهر وذل و جوع، فبلغ بالناس اليأس غايته، فلا عدل، ولا قانون يسود، و لا رحمة تهبط، فانطلق بعض من الشعب يدعوا الناس إلى العصيان و محاربة الظلم و سرعان ما استجابوا للنداء، فحطموا حاجز الخوف و وجهوا ضرباتهم إلى الظالمين، و سرت نار الثورة في جميع أنحاء مصر. وتقول بعض المصادر أن كل ما لدينا من معلومات عن هذه الثورة كتبها مؤرخ اسمه (ابوري) حيث وصف حال مصر بأن الناس قد جاعت وماتت من الجوع. ...... وانقلبت الأوضاع في المجتمع.. ... وكان الناس يقولون: يا ليتنا متنا قبل هذا.. وكان الأطفال يقولون: ولماذا أتوا بنا.. واللصوص صاروا أغنياء.. ...إلخ وعلى الرغم من عدم توافر معلومات عما حدث بعد ذلك في مصر. إلا أنني أبشر بني وطني (وبني كل وطن أبتلي بهذا البلاء) أن الأوضاع استقامت بعدها، واستأنف الفراعنة البناء والحياة والإنتاج وعادت مصر بعدها إلى مكانها الرفيع كدرة في التاريخ وكأم للدنيا. فسلام على شهدائنا الأبرار الذين نظفوا لنا أرضاً كانت عفنة، وأضاءوا لنا عتمة كانت موحشة وألا بعداً للظالمين، ولعل ما تبقى من الظالمين يعي درس التاريخ وسنة الله في أرضه.