بينما لا تزال هتافات ثورة الخامس والعشرين من يناير تتردد فى شوارع العاصمة والمحافظات، مطالبة بالعدالة الاجتماعية، فإن صداها لم ينعكس بعد فى السياسات الاقتصادية للحكومة، إذ إنه بالرغم من إقرارها لسياسات عاجلة لتخفيف أعباء المعيشة، يرى خبراء ضرورة الإعلان عن استراتيجية طويلة المدى، تعبر عن السياسات التنموية الجديدة التى تحقق طموحات مصر الثورية، على غرار ما شهده العديد من الدول النامية فى حالات مشابهة. وتحفل التجارب الاقتصادية الدولية بالعديد من التجارب التى أعاد فيها المجتمع صياغة عقده الاجتماعى على نحو أكثر عدالة، ومن أنجح التجارب فى هذا الصدد التجربة الماليزية، إذ شهدت ماليزيا خلال الخمسينيات والستينيات أوضاعا مشابهة لمصر قبل ثورة يناير، حيث حقق الاقتصاد الماليزى نموا اقتصاديا خلال الفترة مابين 1966 الى 1970 بمتوسط 5.4%، بينما لم يستفد قطاع عريض من ثمار هذا النمو إذ كان نحو نصف المجتمع هناك تحت خط الفقر خلال الستينيات، مما أدى لقيام انتفاضة شعبية ضد سياسات البلاد عام 1969. وتجنبا لحدوث انفجار اجتماعى أسست السلطة الماليزية مجلسا لإدارة البلاد أعلن عن استراتيجية اقتصادية جديدة تمتد من 1970 الى 1990 تستهدف «استئصال الفقر» وإعادة توجيه موارد الدولة لتوفير جودة حياة أفضل للفئات الأفقر فى مجالات مثل التعليم والصحة وتقديم الحوافز للصناعات التى تحقق الاهداف التنموية، وخلال تطبيق هذه الاستراتيجية شهدت معدلات النمو الماليزية طفرة، حيث بلغ متوسط النمو خلال هذه الأعوام العشرين 8.3%، ومع تطبيق هذه السياسات التنموية ارتفع نصيب الصناعة من الاقتصاد من 11.4% الى 25.9% عام 1995. وبعد الانتهاء من تلك الاستراتيجية، أعلن رئيس وزراء ماليزيا الشهير، مهاتير محمد، عن استراتيجية جديدة تنتقل بالمجتمع الماليزى من مجتمع نام الى مجتمع متقدم فى عام 2020. «نحن بحاجة الى تغييرات عميقة فى السياسات الاقتصادية بمصر لتنفيذ طموحات المجتمع فى تحقيق العدالة الاجتماعية، وما نشهده الآن يقتصر على توزيع هبات وصور من الدعم ووعود، ولكن لا توجد حتى الآن سياسات واضحة على المدى الطويل» تقول ماجدة قنديل، مديرة المركز المصرى للسياسات الاقتصادية. «نحن بحاجة لإنشاء مجلس يضم ممثلين للقوى السياسية والحزبية وغير الحزبية والشباب مع أعضاء من المجلس الأعلى للقوات المسلحة لصياغة الخطوط العريضة للسياسات المقبلة، والتى يجب أن تعبر عن ارادة الشعب» يقول مصطفى كامل السيد، استاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، ومدير مركز شركاء التنمية. ويشير السيد إلى أن هذه السياسات يجب أن تشمل استراتيجية لإعادة توزيع الدخول فى المجتمع، ورؤية للسياسات الضريبية التى تحقق ذلك، وإعادة توزيع لبنود الإنفاق على التعليم والصحة والخدمات العامة. وتقوم الاستراتيجية الماليزية لعام 2020 على ضرورة صناعة السياسات التى تشعر كل أطراف المجتمع بأن مصيرهم مشترك وانهم يعيشون فى تناغم فى ظل شراكة كاملة ومتعادلة. «يجب أن يكون هناك تواصل وحوار مع المجتمع عند صياغة أولويات الإنفاق العام، وأن يتم طرح مزايا وعيوب كل سياسة اقتصادية على الرأى العام حتى يختار السياسة الأنسب له» برأى قنديل. وكانت العديد من التقارير الاقتصادية قد انتقدت سياسات النظام السابق لعدم تقديمها النفقات الكافية للتعليم والصحة حيث بلغت المبالغ الموجهة للإنفاق على الصحة فى الموازنة الحالية 5% من إجمالى الإنفاق العام، مقابل 15% المتوسط العالمى، وانخفضت نسبة الإنفاق على التعليم من مجمل الإنفاق العام من نحو 16% فى عام 2004/2005، الذى تولت فيه حكومة نظيف المسئولية، لتصل إلى ما يقرب من 12.2% من النفقات فى ميزانية 2009/2010. وكان مهاتير محمد قد سُئل فى حوار صحفى: «إذا توليت الحكم فى إحدى الدول العربية، اليمن، ما هى أبرز المجالات التى ستركز على تطويرها»، فأجاب: «التعليم». ويشير السيد الى أنه بالرغم من أن العديد من التقارير التنموية كانت تؤكد على ضرورة إعادة هيكلة السياسات الاقتصادية فى البلاد ومن أبرزها تقرير «عقد اجتماعى جديد» لبرنامج الأممالمتحدة الإنمائى إلا أن هذه الدعاوى لم تكن تلقى الاستجابة الملائمة من الحكومة السابقة «أعتقد أننا فى حاجة لسياسات لإعادة توزيع الدخل لكن فى إطار التوجه الرأسمالى، فتطبيق سياسات اشتراكية كالتى أعقبت ثورة يوليو غير مطروح حاليا، ولكننا فى حاجة لسياسات لتهذيب الرأسمالية». واعتمدت التجربة الماليزية فى رفع معدلات الدخول من خلال توجيه نفقات ضخمة لتمويل العديد من المؤسسات الحكومية التى كانت تساعد على دمج الفئات المهمشة فى منظومة الإنتاج ،كإنشاء مؤسسات للتشجيع على انشاء مشروعات صناعية وأخرى لتيسير الحصول على القروض، وحاول النظام السابق تأسيس أجهزة مماثلة كالصندوق الاجتماعى للتنمية «نحن بحاجة لإعادة النظر فى المبادرات التى قدمها النظام السابق لتحسين دخول المواطنين، ومدى كفاءتها فى تحقيق الأهداف المرجوة منها، لأننا وصلنا فى ظلها الى حالة الثورة الشعبية» تقول قنديل.