فى الوقت الذى يمر فيه الاقتصاد المصرى باختبار صعب لتجاوز الآثار السلبية لأحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير، تمر الحكومة المشكلة منذ أيام باختبار أصعب نظرا لما ينتظر منها لتحسين مستوى المعيشة بعد السياسات المجحفة التى اتبعها النظام السابق والتى دفعت الجماهير للثورة ضده، استضافت «الشروق» نخبة من الاقتصاديين لطرح تصوراتهم حول الإجراءات الاقتصادية العاجلة المطلوبة لتحقيق استقرار اقتصادى، والسياسات متوسطة وطويلة الأجل التى يقترحونها على الحكومات القادمة بانتخاب ديمقراطى. واعتبر أحمد غنيم، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، أن هناك مبالغة فى تقليل أو تضخيم الخسائر الاقتصادية للثورة، معتبرا أن الأهم من تقييم آثار الثورة على الاقتصاد خلال الأيام الماضية هو تقدير آثارها التى ستمتد لعدة أشهر قادمة، وكذلك توعية المواطنين بأن الرخاء الاقتصادى المنتظر تحقيقه فى ظل الديمقراطية سيستغرق بضع سنوات حتى يلمسوا آثاره ولن يحدث بالسرعة التى يتوقعها البعض. «الأزمة الاقتصادية التى يمر بها الاقتصاد حاليا هى نموذج أكبر للأزمة الاقتصادية التى عاشتها البلاد بعد حادث الأقصر الإرهابى فى عام 1997، والذى شهد تراجعا قويا لإيرادات السياحة والبورصة»، كما يقول غنيم، معتبرا أنه يمكن تحديد الإجراءات المطلوبة فى ضوء هذه الخبرة التاريخية. وستؤدى التغيرات السياسية التى تشهدها البلاد لتباطؤ حركة الصادرات فى ظل التعطل النسبى لحركة الإنتاج، كما يتوقع غنيم، والتى يرى أنها ستمتد زمنيا مع استمرار حالة عدم الاستقرار الحالية، بالإضافة إلى تأثير أحداث الشهر الماضى على تراجع السياحة الوافدة على مصر. كما أن قيمة الجنيه المصرى ستتجه للانخفاض أمام الدولار، خاصة مع زيادة الاعتماد على الواردات، هذا إلى جانب إمكانية خروج نسبة كبيرة من رءوس الأموال مع عودة التداول فى البورصة. ويعد تدخل البنك المركزى بإجراءات لتيسير الحصول على الائتمان أول الإجراءات السريعة التى ينبغى اتخاذها لاحتواء الوضع، كما يقول غنيم متوقعا ارتفاع تكاليف التمويل بدرجة كبيرة فى ظل هذه الظروف، مما يهدد بعودة حالات التعثر المالى فى قطاع الأعمال مما سينعكس سلبا على النشاط الاقتصادى كله. وحذرت شيرين الشواربى، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة والخبيرة بالبنك الدولى، من أن هناك مخاطر من حدوث هروب كبير لرءوس الأموال. واتفق الاقتصاديون الأربعة على ضرورة وضع قيود على تدفق رءوس الأموال الخارج بصفة استثنائية، ولمدة محددة، قدرها غنيم بثلاثة أشهر، معتبرا أن تحديد المدة مهم لطمأنة المستثمرين وعدم تخويفهم. ورهن اساتذة الاقتصاد عودة البورصة للعمل، التى اتفقوا على ضرورة الاسراع بها، بتطبيق هذه القيود الاستثنائية، خاصة انها ستساهم فى تقليل الانخفاض المتوقع فى قيمة الجنيه. نزع القداسة عن «عجز الموازنة» وتتطلب المرحلة المقبلة مزيدا من الإنفاق العام، وهو ما يثير التساؤلات حول الموارد المتاحة لتمويل هذا الإنفاق، خاصة مع التركيز خلال السنوات الماضية على خفض عجز الموازنة، إلا أن أحمد غنيم يدعو فى تلك المرحلة إلى التخلص من هذا التفكير الكلاسيكى، معتبرا انه لا غضاضة فى تطبيق «سياسات تساند الاقتصاد، وترفع مستويات العجز، ما دام ذلك يحدث بصفة استثنائية، فنحن ندخر الأموال العامة لإنفاقها فى أوقات أزمات كهذه». وجدير بالذكر أن العجز فى الموازنة 7.9% فى العام المالى السابق وكانت الحكومة السابقة تتطلع إلى تخفيضه إلى 3% فى عام 2015. ومع ذلك يؤكد غنيم ضرورة ألا تقوم الحكومة الحالية، المؤقتة، بتطبيق سياسات تدفع ثمنها الحكومات التالية، وأن تتجنب اصدار قرارات تهدف فقط لإرضاء المواطنين دون مراعاة آثارها على الاقتصاد، مثل القرارات الأخيرة بتعيين أبناء العاملين بالقطاع الحكومى. واستثنت شيرين الشواربى الحالات التى يمكن فيها الاستفادة من هذه العمالة الشابةالجديدة إذا تم توزيعها على المصالح الحكومية التى ترتفع أعمار العاملين بها. وفى هذا السياق اعتبر عبدالله شحاتة، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، أن قيام وزارة المالية بتلقى طلبات التوظيف من الشباب كان إجراء غير موفق، وانه اذا عجزت الوزارة عن توفير تلك الوظائف سيفقد المواطن الثقة فى الحكومة. شبكات للضمان الاجتماعى فيما قالت أميرة حداد، استاذة الاقتصاد بجامعة القاهرة، إن الثورة خلقت توقعات متفائلة بتحقيق الرخاء الاقتصادى بدرجة مبالغ فيها، لذا فإن أى حكومة تتولى مقاليد الأمور فى الوقت الحالى بحاجة إلى تطبيق سياسات تكون «واضحة وجذابة» يلمس المواطن انعكاسها على حياته الشخصية مما يساهم فى خلق دعم شعبى لعملية الاصلاح الاقتصادى. وتقترح حداد سياسات تراها أساسية فى المدى القصير، أولها إنشاء شبكات ضمان اجتماعى، عاجلة مع مراعاة التوجه بالدعم إلى ال40% الأكثر فقرا فى المجتمع، مشيرة إلى أنه من الممكن إنشاء صندوق لتدبير الموارد لهذه النفقات الاجتماعية يعتمد بشكل نسبى على التمويل الدولى، خاصة أن هناك عددا كبيرا من المانحين الدوليين خاصة من الخليج متحمسون فى هذه الفترة لمساندة الاقتصاد المصرى. وأكدت حداد انه من المهم جدا ان يتم التعامل مع هذه النفقات بشفافية قوية فمن الممكن مثلا ان تكون موارد الصندوق معروضة على شبكة الإنترنت ويراقبها المواطنون. ومن الممكن تدبير تلك الموارد أيضا عن طريق تطبيق غرامات ومصادرات على رجال الأعمال الذين ثبت فسادهم بعد ما كشفته احداث الثورة. ويعقب شحاتة على قضية الإنفاق الاجتماعى بقوله إن المشكلة ليست فى الموارد التى توجه إلى الانفاق الاجتماعى ولكن فى طريقة الاستهداف فجزء من السياسات الاجتماعية لم يكن يهدف إلى تحقيق اصلاحات يستفيد منها المجتمع على الأجل الطويل ولكن لإسكات الناس، وبعض الوزراء كانوا يطبقون سياسات لها آثار سلبية على المدى الطويل ولكنهم يفكرون بمنطق انهم لن يبقوا فى وزاراتهم بعد خمس سنوات، بحسب شحاتة، مضيفا أنه كانت هناك بعض السياسات الاقتصادية التى كانت تهدف إلى تحقيق الاستقرار فى حياة المواطن كانت تفتقد للكفاءة، مثل اقبال الدولة على شراء القمح أوقات الأزمات ونحن أكبر مستورد فى العالم فكنا نتسبب فى رفع الأسعار عالميا مما يجعل المضاربين فى العالم يربحون ونحن نخسر. وعلى صعيد آخر شددت حداد على تطبيق اجراءات حازمة لمنع الممارسات الاحتكارية خاصة فى السلع الغذائية، مشيرة إلى أن احتكارات الغذاء أحد الأسباب الرئيسية فى ارتفاع أسعارها. ويرى شحاتة أن احتكارات التجارة فى مصر لعبت دورا رئيسيا فى رفع الأسعار وإشعال الثورة. وتنبه الشواربى إلى أنه مع تداعيات الاحداث السابقة والوضع الاقتصادى الحالى فإن التضخم سيتجه إلى الارتفاع، لذا فإن الأداة الوحيدة لمكافحته هى ضبط الأسواق ومكافحة الاحتكار، «وإذا بلغت الضرورة بنا لتسعير السلع الأساسية تسعيرا جبريا نستطيع أن نفعل ذلك لأن التشريع المصرى يسمح به فى فترات الظروف الاستثنائية مثل الفترة الحالية». بحسب الشواربى. وتعتبر الشواربى أنه لابد أن تجرى الحكومة اجتماعات جادة مع التجار لضبط السوق وتغليظ العقوبات على المخالفين والمحتكرين، خاصة أن الإنتاج متوقف حاليا فى العديد من مواقع وقد تعوق الاحتجاجات العمالية الحالية عملية الإنتاج فى بعض المواقع. وترى حداد إمكانية أن يتدخل البنك المركزى بتطبيق سياسات تفاديا للتضخم المستورد «وهى مسألة تحتاج للدراسة ولكن لو نجحت فى تحقيق أهدافها سيكون أمرا إيجابيا للغاية». الضرائب التصاعدية ضرورة وعلى المدى الطويل ترى حداد أنه هناك حاجة لتطبيق عدة سياسات مثل فرض الضرائب التصاعدية على الدخل والثروة ومنها الثروة العقارية وفرض ضريبة أرباح رأسمالية، وذلك لتوفير موارد لدعم الغذاء والبنية التحتية والإصلاح الحقيقى للجهاز الحكومى إداريا، ومن الضرورى أيضا التوسع فى شراكات اقتصادية مع دول جنوب شرق آسيا ليس فقط على المستوى التجارى، وكذلك تنويع مصادر السياحة، وتقليل الملكية العامة، وتطوير وتوسعة البنية التحتية. وإصلاح سوق العقارات. فعلى سبيل المثال من الممكن الزام شركات التطوير العقارى بأن تبنى مدينة سكنية لمتوسطى الدخل بجوار كل مدينة سكنية فاخرة. وبصفة عامة تعتبر حداد أنه من الضرورى تطبيق سياسات تستهدف توسيع قاعدة المستفيدين من النمو الاقتصادى، فأحد الأسباب الرئيسية لعدم عدالة توزيع الدخول فى مصر هو انخفاض مهارة العاملين بسبب تدنى مستوى التعليم. فمصر فى حاجة لطبقة عاملة متعلمة. أما عبدالله شحاتة، فيرى أن من أولويات السياسات الاقتصادية للمرحلة الحالية تقليل عمليات إهدار المال العام التى تحدث فى قطاعات عدة داخل القطاع الحكومى، فمثلا الإهدار الذى يحدث فى اللجان الوزارية «من خلال حصول اعضاء هذه اللجان على...» فإذا تم تفكيك هذه اللجان إلا بعض اللجان الضرورية سيتم توفير المليارات من الجنيهات. كما يجب تقوية دور قطاع الرقابة المالية فهو ضعيف جدا لأن ولاءه للجهات التى يتبع لها، برأى شحاتة. ويجب ان يشدد رئيس الوزراء والجهاز المركزى للمحاسبات الرقابة على الصناديق والحسابات الخاصة، وهى الصناديق المخصصة للإنفاق على المستوى المحلى فى المحافظات وكانت تفتح الباب لبعض الممارسات الفاسدة. من ناحية أخرى، أكد شحاتة اهمية تنشيط عملية تحصبل الضرائب، حيث إن ما يتم جمعه حاليا من حصيلة الضرائب لا يعبر عن الحصيلة الضريبية المناسبة لحجم النشاط الاقتصادى «فلا يعقل مثلا أن تكون كل الضرائب المحصلة من الجامعات الخاصة 20 مليون جنيه بينما تحقق إيرادات ضخمة تصل إلى نحو 200 مليون جنيه فى بعض الحالات». كما يجب أن يتم الزام شركات القطاع العام بعدم تحويل نسبة كبيرة من أرباحها كاحتياطى لتوجيه تلك الموارد لموازنة الدولة. وحذر شحاتة من إمكانية تحجج بعض رجال الاعمال بالثورة لتخفيض حصيلة الضرائب، فأغلب الشركات قامت بتقفيل ميزانيتها فى نهاية العام السابق أى قبل الثورة. ويرى شحاته أنه من الممكن قيام البنك المركزى برفع سعر الفائدة حيث سيفيد فى التشجيع على الادخار بأقل مما سيتسبب فى تعويق الاستثمار ولكن ستدفع الدولة تكلفة هذه السياسة فى زيادة أعباء الديون، ولمواجهة ظاهرة الاحتجاجات العمالية الحالية ترى الشواربى أنه على مستوى القطاع الحكومى يجب أن يتم تكليف رؤساء جدد للقطاعات التى تواجه تلك الاحتجاجات للتفاوض مع العاملين، وعزله ان فشل فى الوصول لتسوية مع العاملين. ومن الممكن منح حوافز كالحوافز الضريبية لأصحاب العمل للاحتفاظ بالعمالة كتقسيط الضريبة على الشركات. وبينما اعتبر غنيم أنه يجب أن تكون هناك رؤية استراتيجية تلتزم الحكومات المتتالية بتطبيقها، بحيث لا يؤدى تغيير الوزراء أو الخلاف داخل الحكومة إلى تغيير عميق فى السياسات، فقد رأت شيرين الشواربى، أن هذه الرؤية تتعلق بدرجة أكبر بالمدى المتوسط والطويل، يتطلب إعدادها بعض الوقت، بينما يتركز دور الحكومة الجديدة المرتبطة بالفترة الانتقالية فى إجراءات عاجلة لحماية الاقتصاد وتقليص خسائره.