لم يستطع الشاب المصرى شريف عبدالسلام أن يوقف سيل «الذكريات الليبية» التى تساقطت أمامه، وهو يحزم أمتعته قبل أيام، فقد قرر الخروج من ليبيا وربما لن يعود أبدا. يوم الثلاثاء الماضى خرج شريف من بيته بمدينة جنزور، هى تبعد 12 كيلو مترا عن العاصمة طرابلس، قبل المغادرة وقف قليلا ليرسم تفاصيل المكان للمرة الأخيرة. حدائق الزيتون والبرتقال والعنب، الشوارع الضيقة والأمتار القليلة الفاصلة بين البيوت، الشعب الليبى يفضل «الحوش» أو البيوت القصيرة المحاطة بالأسوار العالية التى تحترم خصوصية النساء، لا توجد العمارات إلا نادرا، فساكنو العمائر هم الطبقة البسيطة والدخول الأقل. طوال خمس سنوات عاشها يتنقل فى أنحاء ليبيا، لم يصادف شريف ولو مرة من يتحدث فى أى شأن سياسى، حتى أصدقاؤه المقربون لم يفتحوا أمامه ملفا سياسيا أو يعلقوا أبدا على ما يجرى، لكن كل شىء يتغير الآن. يوم الغضب وصل ليبيا فى 17 فبراير، وخرج الشعب فى أنحاء البلاد لتستقبلهم دبابات القذافى، ويسقط الشهداء والمصابون بالآلاف وفقا لتقارير إعلامية. شريف يعمل مشرفا على مواقع بناء محطات الكهرباء فى ليبيا، منذ بداية المظاهرات حاول الرجوع ثلاث مرات ولكنه فشل بسبب انقطاع الاتصالات والإنترنت، ولكنه نجح أخيرا بعد رحلة استغرقت يوما كاملا، «ودفعت فيها أضعاف ثمن التذكرة علشان أرجع». بالقرب من بيته عمارة عالية، يتذكر حديثا ليس بعيدا مع أحد الأصدقاء المقربين، هو تعدى الثلاثين ولم يدبر تكاليف الزواج، متوسط الأجور لا يتعدى ألف دينار، «الميزة الوحيدة هناك رخص الأكل واللبس، ممكن أعيش كويس بمائة دينار»، ولكن رغم هذا «الليبيون فقراء»، يوضح شريف أن فكرة شراء بيت ودخول مشروع زواج يتعدى القدرة المادية للمواطن الليبى العادى». صديق شريف لم يتمكن من الحصول على شقة فى العمارات الجديدة فى وسط طرابلس، فالعمائر بناها معمر القذافى ضمن مشروعه لإعمار ليبيا، «أسعار الشقة تصل إلى 800 ألف دينار»، وقتها جاء رد فعل الصديق الليبى فى جملة موجزة «ربنا ينتقم منهم». الصديق الليبى الذى لم يتحدث وقتها، هو الآن مرابط فى مدينة بنغازى شرق ليبيا. انضم الشاب إلى جموع المتظاهرين، وأصيب بطلق نارى. «وقال لى إنهم سيطروا على الوضع هناك، وغلبوا قوات الجيش الليبى، وأخذوا الأسلحة». بنغازى ثانى أكبر مدينة بعد العاصمة طرابلس، بدأت منها الثورة الليبية، عندما يتجمع المتظاهرون أمام وزارة الداخلية، للتنديد بأحداث مذبحة «بوسليم» التى راح ضحيتها 1200 سجين سياسى، ففى يونيو 1996 فتحت السلطات الليبية النار على السجناء، فقط لأنهم نظموا إضرابا داخل السجن. الشاب الليبى من قبيلة «البراعصة»، إحدى أكبر القبائل الليبية فى الشرق، ولكنه يتحدث بصفة الجمع فلا يحدد البلد أو القبيلة، «فمعظم القبائل توحدت ضد القذافى»، كما ينقل شريف عن صديقه. يضيف الصديق الليبى الثائر أن التركيبة القبلية فى ليبيا لها تأثير إيجابى هذه المرة، «فالقبيلة التى تقرر مساندة النظام، سوف تعيش فى عار وذل ومنبوذة من المجتمع الليبى فى حال نجاح الثورة». وذكرت وكالة رويترز أن القبائل الليبية المتضامنة ضد القذافى، قد بدأت فى الضغط على الدول الغربية باستخدام سلاح النفط، وذلك بعد حديث القذافى يوم الثلاثاء الماضى، والذى هدد فيه المتظاهرين صراحة بالإبادة. ولكن الثوار فى الجانب الشرقى من ليبيا لن ينتظروا طائرات القذافى، ينقل شريف عن الثائر الليبى أن «500 عربة تحمل الثوار المسلحين من مدينة البيضاء والمرج فى شرق ليبيا، سوف تتجه إلى العاصمة طرابلس لتحريرها من قبضة القذافى». وكانت تقارير إعلامية قد أكدت سيطرة الثوار على خليج سرت، على بعد 600 كيلو متر عن العاصمة. تملك ليبيا أكبر ساحل على البحر المتوسط، وتحتل الترتيب 17 بين دول العالم من حيث المساحة الأكبر، ويسكنها 6 ملايين نسمة، طبقا لآخر الإحصائيات. لا يقف فى وجه الثائرين الآن سوى الساحة الخضراء فى طرابلس، «زى ميدان التحرير عندنا»، قبل أن يغادر شريف ليبيا يوم الثلاثاء الماضى، مر فى شوارع العاصمة، «الحياة عادية، حتى البنوك شغالة». العاصمة الأكثر عددا، والأكبر أهمية تعانى من قبضة جيش القذافى، والقائد يستخدم كل الوسائل. الترهيب من الجيش الموالى، والترغيب واستمالة قلوب الشعب أيضا، «أى رقم محمول فى طرابلس، بيوصل له رصيد مجانا بقيمة تصل إلى 100 دينار». شريف نفسه استقبل شحنا لم يطلبه بقيمة 20 دينارا، «نفسى أعرف هو بيعمل كدا ليه، ومافيش شبكة ولا نت ؟». أما الطريقة الثالثة التى تبعها النظام الليبى فهى الإعداد لحرب أهلية، « الجيش بيوزع على المواطنين رشاشات وأنا واحد ليبى عرض على سلاح»، وكانت العاصمة قد شهدت مصادمات بين المؤيدين للنظام والمعارضين له. وسط كل هذه الأحداث لم يشارك شريف أبدا، ولكنه ينقل نداء عاجلا من صديقه فى بنغازى، «مش لا قيين أى أدوية، ومش عارفين يعالجوا الجرحى»، والاستغاثة يكررها شريف نقلا عن صديقه الليبى إلى الشعب المصرى.