عرفت مصر الاحتجاجات والانتفاضات والثورات عبر عصورها المختلفة نتيجة لمؤثرات وعوامل داخلية وخارجية. وكان لما حدث فى تاريخها الحديث والمعاصر الطابع الخاص، وبمعنى أدق فى القرنيين الماضيين، وذلك عندما بدأت دولة محمد على باشا فى تأسيس وتكوين الجيش المصرى. ولا شك أن توليه الولاية عام 1805 يُعد ثورة، بعد أن ألبسه الخلعة علماء مصر الذين كانوا يمثلون الإدارة الشعبية وقتئذ. وقد نجح هذا الوالى المتفرد أن يؤكد أن لمصر المكان والمكانة، حيث امتدت الدولة المصرية خارج حدودها وحققت انتصارات مازال التاريخ يُرددها. وبانضمام المصريين إلى سلك الجندية، ومع الامتيازات التى منحها الوالى سعيد باشا (1854-1863) للجيش، تغلغل داخله العنصر الوطنى. حقيقة أن القادة وأصحاب المناصب الكبيرة هم من الأتراك والچراكسة، ولكن كان هناك بعض من أولاد مصر قد حصل على رتب عالية. وسرعان ما حدث تذمر من هذه القيادة، وقرر الضباط المصريون إقصاء العنصر الذى عدوه دخيلا على جيشهم، وذلك فى وقت زحفت فيه الهيئة الأجنبية على مصر، وتمكنت من السيطرة على ماليتها واقتصادها، ثم توغلت فى سياستها. وعانت مصر كثيرا، وتحرك المثقفون، ونضج الوعى السياسى أثناء حكم الخديو إسماعيل (1863-1879)، ثم تأسيس الحزب الوطنى (الأول) فى نوفمبر 1879، ولم يكن حزبا بالمعنى المفهوم، وإنما مثَّل جبهة أو حركة وطنية قوية انضم إليها مختلف قوى مصر، وشكّل العسكريون الثقل فيها، فهم يئنون تحت الظروف العامة التى يحياها الشعب، إضافة ما يواجهونه من قادتهم. وفى الحين نفسه فقد رأت فيه القوى الأخرى أنه من طينتهم والشاكى للسلاح الذى يدافع عنهم، ومن هنا أصبح الجيش والشعب يدا واحدة لمواجهة الظلم سواء من الحاكم وأعوانه أو من التدخل السافر. ومن منطلق التوءمة، قامت الثورة الوطنية المعروفة بالثورة العرابية (1881/1882) إبان ولاية الخديو توفيق (1879-1892)، حيث شارك فيها المصريون جميعا، وكانت أول ثورة دستورية فى المنطقة، ولكنها أُجهضت نتيجة تضاربها مع مصالح الخديو وأعوانه والأجانب، وضرب الأسطول البريطانى الإسكندرية فى 11 يوليو 1882 واحترقت بإيعاز من توفيق، واتُهم فيها الثوار، ودافع الجيش عن مصر، وتفيض الوثائق ببطولاته، وإن كان هناك بعض القصور من قائد الثورة بسبب ملابسات معينة. وتم حل الجيش المصرى على يد الاحتلال البريطانى الذى أسس جيشا وفقا لإرادته، وسرعان ما انتعشت الحركة الوطنية وتأسس الحزب الوطنى (الثانى) على يد مصطفى كامل، وظهرت أحزاب أخرى، ولكن أُخمدت تلك الحركة فى أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، حيث أُعلنت الحماية البريطانية على مصر، وسُخرت لخدمته وكذلك جيشها، وما لبث الأمر أن قامت ثورة 1919 ضد الحماية مطالبة بالاستقلال، ناقمة على السلطان فؤاد، وتمخضت الأحداث عن صدور تصريح 28 فبراير 1922، وتأسيس الملكية وصدور دستور 1923، وعلى الرغم من أنه أشهر الدساتير المصرية، ولكنه أعطى للملك الحقوق فى الجيش، فهو القائد الأعلى، يولى ويعزل الضباط، ويعلن الحرب، ويعقد الصلح، ووضع فؤاد نصب عينيه الاستحواذ على الجيش ليضمن الهيمنة عليه، وأيضا ليستعين به عند الضرورة. ومع أن معاهدة 1936 بدأت حياة جديدة للجيش الذى لم يعد ضباطه من الذين ينتمون لأولاد الذوات، إذ التحقت به الشرائح التى ارتبطت جذورها بعامة الشعب ولها أفكارها وأبعادها وتطلعاتها. ونجح الملك فاروق فى التقرب من الجيش، لكن لم يستمر الأمر طويلا. ومع الحرب العالمية الثانية ( 1939 – 1945) مضت التحركات، وقامت حرب فلسطين عام 1948 التى انتهت بالهزيمة، وتوثقت العلاقات بين ضباط الجيش الناقمين على نظام الحكم الذى واصل انحداره، و دُشَّن تنظيم «الضباط الأحرار» عام 1949 برئاسة جمال عبدالناصر، واتقَّد نشاطه، وهنا لابد من الإشارة لتكرار نفس الرؤية السابقة الخاصة بالتلاحم بين الجيش والشعب إزاء الظروف السياسية التى كانت تمر مصر بها من فساد سياسى واقتصاد لا يقدم خدماته للشعب وغياب العدالة الاجتماعية، وكذلك الاحتلال الجاثم على الأراضى المصرية. وبادر الجيش بانقلاب 23 يوليو 1952 الذى أطلق عليه «حركة الجيش المباركة»، تلك التى أعلنت مبادئها، وكان الشعب متعطشا لها، وبالتالى انضم إليها، وأصبحت ثورة بكل ما تعنى تحت قيادة عبدالناصر، ومضت فى طريقها، وعلى طول هذا الطريق كانت هناك محطات إيجابية لا تنكر إطلاقا، تخللتها أخرى سلبية، وحاولت الثورة علاجها، فنجحت أحيانا وفشلت أحيانا أخرى. وجاءت فترة الانفتاح على يد أنور السادات الذى خرج عن النص الثورى، واتجه إلى سياسات أخرى، حملت تغييرا كان له الانعكاسات على ثورة مصر سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وماج المجتمع بتيارات مختلفة، خلقت تباينا واضحا، وانقضى هذا الحكم وترك آثاره. وتولى حسنى مبارك رئاسة الجمهورية، واستبشر الناس خيرا، حيث تصريحاته التى أعطت الأمل لحياة أفضل، ومضت الخطوات، ونحن نقر ونعترف بالإيجابيات سواء فى الحرب أو السلم. ولكن على جانب آخر، فإن طول المدة وما حدث فيها من خلق آليات لتجميع السلطة فى يده، وبطانة تهيئ له السطوة، وما أصاب المجتمع بعد أن فقدت الطبقة الوسطى مقوماتها، وتحكم أصحاب المصالح والأموال فى توجيه الدفة، وسيطرة الحزب الواحد على المقدرات، والنقص فى الكوادر السياسية، والهوة السحيقة بين من يحكم ومن يخضع وخاصة من الشباب الذين اتهموا بعدم الانتماء، والفرق الشاسع فى الأعمار بينهم وبين النخبة، وبالتالى انعدام التوافق، فكل جهة فى وادٍ تختلف عن الأخرى، إضافة إلى فقدان الصف الثانى الذى يصنع التوازن، وكذلك الملابسات والظواهر والتعنت والأمراض الاجتماعية، وغير ذلك من الأسباب التى دفعت إلى حتمية أن تكون هناك آلية أخرى لانتشال الشعب مما يعانيه طوال عقود مضت. ولكن من هو القادر على الدفع بهذه الآلية؟ إنه الدم الجديد الذى جرى فى عروق شباب مصر الذين قاموا بثورة 25 يناير المجيدة 2011 وانضمت إليها جموع المصريين. والواقع وبعد قراءة التاريخ، ليس تاريخ مصر فحسب، وإنما ما حدث فى ثورات العالم بما فيها الثورة الفرنسية التى عبرت خارج حدودها، لم تكن مثل ثورة شباب مصر السلمية البيضاء التى لم يعرف العنف طريقه إليها، وإنما القوى المضادة كانت متسببة فى إراقة دماء شبابها هم أحياء عند ربهم يرزقون. وعند نزول الجيش إلى ميدان الثورة رفع الثوّار شعار «الجيش والشعب يد واحدة» لإيمانهم الصادق وبحكم التجربة التاريخية بأن القوات المسلحة هى الدرع الواقية، والأداة الموصلة أثناء فترة الانتقال للحكم الديمقراطى الذى تنتظره مصر ما بعد الثورة.