وهكذا يأبى عام 2010 أن يرحل دون أن يحصد روحا جديدة لأديب كبير كان يعيش بيننا فى سكون ثائر، رحل الأديب النوبى الذى كانت تتجسد فيه مصر بكل أصالتها وعراقتها وصمودها هو الذى قست عليه الحياة فدفعته للتخلص منها مرارا، وكانت تتشبث به إلى حد يثير دهشته، ولما بدأ يحبها ويجد فيها أملا تركته ورحلت ورحل عنا، إنه إدريس على النوبى الأسمر المصرى شديد المصرية. «إدريس على وشخصية مصر النوبية»، كان عنوان احتفال أقامته لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة لمرور خمسين عاما على سلسلة إبداعات التفرغ، التى كانت روايته البديعة «انفجار جمجمة» مستهلا لها، فقرر المجلس إقامة حفل توقيع لطبعتها الثالثة بعد نفاد طبعتيها الأولى والثانية، ولكن حضرت الرواية وغاب إدريس. الكلمات خرجت متعثرة من د.عماد أبوغازى أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، بصوت متحشرج خالطه بكاء يجاهد فى الكتمان وترقرق الدمع فى أعين الحضور، وأجهش بعضهم بالبكاء من أهله وأصدقائه المقربين، وسرعان ما تحول العرس إلى مأتم والاحتفال إلى تأبين، إلا أن خيرى شلبى مقرر لجنة القصة أصر أنها احتفالية بإدريس وأدبه وندوة علمية ونقدية تقيّم مسيرته الإبداعية وليست تأبينا له لأنه كما ذكر أبوغازى: «غياب إدريس مادى لكنه بيننا بأعماله وإبداعاته». إدريس كتب عن نفسه كان إدريس على أديبا بالفطرة فلم ينل قسطا وافرا من التعليم، ولم يتأثر إبداعه بالغرب، يقولها خيرى شلبى، ويكمل: «يعتبر أحد أهم الكتّاب الذين نهض على أكتافهم نقل النوبة إلى الأدب والتعريف بالشخصية السمراء وقد سبقه فى ذلك محمد خليل قاسم صاحب رواية «الشمندورة». إلا أن الأديب يحيى مختار صديق إدريس وأحد أهم الكتّاب النوبيين أكد أن إدريس لم يكن متأثرا بقاسم بل لم يقرأه سوى مؤخرا، وكان رافضا لتسمية هؤلاء ب «أدباء النوبة»، لأن فى تلك التسمية فصلا لهؤلاء الأدباء عن مصر بوصفها وطنهم واجتثاثهم من مصريتهم بل كان يفضل إطلاق تسمية «أدباء نوبيين» نسبة إلى مسقط رءوسهم. كان إدريس على يؤرخ لمصر وللبسطاء، وكان مشابها للأديب العالمى «مكسيم جوركى» فى رأى د.فؤاد قنديل حيث انتمى إلى أدب المعاناة الذاتية، وانعكست معاناته فى أدبه، وكان يستلهم من معاناته الذاتية مسرحا للحكى وتجلى هذا فى رواياته «دنقلة»، «النوبى»، «مشاهد من قلب الجحيم»، «تحت خط الفقر» و«الزعيم يحلق شعره» وغيرها من الأعمال. كان جريئا فى موضوعاته ما تتسبب له فى المتاعب آخرها مصادرة روايته الأخيرة «الزعيم يحلق شعره» من معرض القاهرة الدولى للكتاب، وكثيرا ما نصحه خيرى شلبى بقمع نفسه وتنحية الخطابية جانبا ويترك لفنه المساحة للإفصاح لكنه كان يأبى. جوائز الدولة عاش إدريس على محروما من جوائز الدولة، لكنه يرجع ذلك لأنها جوائز الدولة فتعطيها لمن ترتئيه من أهل الحظوة والمقربين. أما هو فكان مثل «المبعدين». وقد أكد خيرى شلبى أن أهم ما ميّز إدريس تجرده من سلطة الذات، التى فأصبح كثير الاستغناء ينادد الأشياء ولا يخضع لها.فلم يكن بحاجة أن يتملق أو يداهن أو يهادن فى مواقفه، التى كان يستمدها من بوح الحقيقة، التى عاشها دون تزييف لذلك كان صادما لا يجيد التلون والحربائية، التى يسميها البعض من باب التأدب الذكاء الاجتماعى.