«ناس غريبة تيجى تعيش فى القرية؟ الناس تاكل وشى»، هكذا كان رد يحيى طاهر فى بداية الأمر على الاقتراح بإنشاء فندق للسياح على قطعة أرض يملكها على أطراف قريته النوبية. ثم بدأ طاهر يتحمس للفكرة ولكنه اشترط أن يبقى مالكا للأرض، فامتلاك غير النوبى لأرض داخل النوبة أمر شديد الحساسية. «تقاليد النوبة ترحب بالضيوف لكن تمنع حد غريب يعيش وسطنا وممنوع حد غريب يملك أرض فى القرية». والقرية هى «غرب سهيل» بأسوان. شريط ضيق يمتد لمسافة 5 كم على الشاطئ الغربى للنيل. اسمها اكتسبته من موقعها المواجه لجزيرة سهيل، التى استخدمها قدماء المصريين لاستخراج الجرانيت. تبعد «غرب سهيل» نحو 10 دقائق مشيا عن شاطئ بربر، حيث دير الأنبا هيدرا وضريح الأغاخان إمام الطائفة الإسماعيلية الشيعية. ويحيى طاهر عاد إلى مسقط رأسه بعد 10 سنوات قضاها فى إسبانيا، معلما للرقص والموسيقى النوبية فى فرقة باليه مدريد. هناك، صمم استعراض باليه عن الرواية الكلاسيكية الإسبانية الأشهر «دون كيشوتى» على خلفية موسيقية نوبية راقصة، ودار مع الفرقة ليعرض فنه فى أوروبا والأمريكتين وأرجاء العالم. «بعد ما رجعت اشتغلت فى السياحة»، فطاهر يدير شركة تتخصص فى جلب سياح إسبان إلى مصر. «من حوالى 15 سنة، أصبحت السياحة هى الشغل الرئيسى لأهل القرية»، القرية التى عانى أهلها الأوائل من التهجير أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات بعد بناء السد العالى، وفقدوا أراضيهم الزراعية وفقدوا تدريجيا الاهتمام بالصيد. أدرك أهل القرية، مثل غيرهم فى قرى النوبة، أن حياتهم التقليدية وأزياءهم مثيرة للسياح، فحولوا حياتهم اليومية إلى مصدر للدخل. والفكرة تقوم على تجهيز البيوت لتصبح مزارات سياحية. يستضيف أهل القرية السياح من حول العالم، ويصحبونهم فى جولة داخل البيوت النوبية ليشاهدوا طرازها المعمارى، والأزياء التقليدية وأسلوب الحياة. البعض يستضيف أيضا فى صحن بيته حفلات للموسيقى النوبية، يشاهد فيها السياح نساء النوبة وهم يخبزون العيش الشمسى ويطهون الأكلات التقليدية. ولا يكاد بيت من بيوت القرية يخلو من بازار للتحف النوبية مثل الخناجر ذات المقابض المصنوعة من عظام الجمل، والشيلان البيضاء النوبية الشهيرة، والطواقى الملونة. لا يفوت بعض سكان القرية أن يربى خارج منزله كلبا أو قطة، فالحيوانات الأليفة تدفع بعض السياح لدفع «تبرعات». رغم كرم الضيافة النوبى، السائح يقضى جولته ثم يرحل. لذلك استجاب طاهر لفكرة الفندق. «اناكاتو»، بتشديد النون، والذى يعنى بالنوبية «هذا بيتى»، وتكلف إنشاؤه ما يقارب 5 ملايين جنيه، طبقا لطاهر. لكن النشاط الاقتصادى الجديد لم يمر دون مشكلات، «فوجئت بأن فيه حكم غيابى ضدى بالحبس سنة مع الشغل»، بتهمة البناء بدون ترخيص. يتحدث طاهر بغضب شديد عن تعنت الحكومة التى تمتنع عن استخراج أوراق تثبت ملكية أهل النوبة لأراضيهم، ثم تتعسف ضدهم فى استخدام القانون، على حد قوله. «مافيش حاجة فى النوبة اسمها ترخيص بناء، إحنا من آلاف السنين بنبنى بيوتنا بالفطرة من غير تصميم هندسى ولا تصاريح ولا أى حاجة ليها علاقة بالبيروقراطية بتاعة القاهرة». وفى الاستئناف حصل طاهر على البراءة، لكن لم يكن «التعنت الحكومى» هو العائق الوحيد أمام المشروع. «طبعا كان فيه رفض شديد من الأهالى»، والحديث لإبراهيم عابدين، مدير الفندق. يتفهم عابدين أسباب غضب الأهالى من إنشاء فندق على أرض النوبة، فهو نفسه نوبى من سكان غرب سهيل. «أكيد فيه خوف من الثقافة الوافدة الجديدة وأثرها على الناس»، لكن إبراهيم يؤكد أن هذا الرفض قد بدا يتلاشى رويدا رويدا، «فكل العاملين فى الفندق من أهل القرية، من أول الغفير لحد المدير». يقول عابدين إن أحد الأسباب الرئيسية التى جعلت الناس تتقبل وجود الفندق هو مراعاته للطابع الثقافى للمنطقة، فكلمة الفندق قد تثير فى الذهن صورا لمبان أسمنتية ضخمة وحمامات سباحة وملاهى راقصة. لكن «أناكاتو» بيت مبنى من دورين على الطراز النوبى التقليدى ويحوى 11 غرفة تسع 28 زائرا. وكل الخدمات اللى بنقدمها بيئية»، طبقا لعابدين. العلاج بالدفن فى الرمال أو الطين، وركوب الخيل ورحلات السفارى فى الظهير الصحراوى للقرية. ولا يقدم الفندق الخمور، وإن كان يسمح للسياح بإحضارها معهم إن شاءوا. أهالى قرية غرب سهيل قد عبروا عن غضبهم العارم مرارا فى وسائل الإعلام المختلفة ضد الاستثمار الفندقى على أرضهم، حين سمعوا عن محاولة شركة «إعمار» للاستثمار العقارى بناء منتجع سياحى ضخم يسمى «بورتو أسوان» على غرار «بورتو مارينا» و«بورتو السخنة». إلا أن نجاح «أناكاتو» يثبت أن الاستثمار فى أرض النوبة ليس مستحيلا طالما راعى المستثمر خصوصية المنطقة.