فى عز الشتاء، تعيش أسوان نهارا جافا، اللهم إلا من هبوب نسمات تبدو صيفية على أهل القاهرة أمثالنا، وبدرجة حرارة أعنف، يعيش النوبيون والحكومة سجالا سياسيا يتخفى فى زى الكلام الرسمى الدبلوماسى، الذى لا يسمن من ممارسات حقيقية على أرض الواقع. يعيش أهل أسوان احتفالات شعبية بمرور خمسين عاما على قرار الرئيس جمال عبد الناصر التاريخى بإنشاء السد العالى، وهو القرار / الكارثة بالنسبة لمعظم النوبيين الذى أغرق قراهم، ومنعهم من إقامة دائمة ونعمة مقيمة فى أراضيهم، التى كانت تمتد بين 43 قرية نوبية خالصة إلا من العرق النوبى. يعيش الأسوانيون والنوبيون مشاعر متناقضة، بعيدة كل البعد عن التناغم أو شعارات الوحدة والمشاركة الوجدانية، حتى ولو رقص النوبيون على أنغامهم أمام السد العالى فى حضور القيادات السياسية، وتجمعوا حول بناة السد العالى يعرفون منهم قصة كفاحهم لإنجازه. واحد من الناشطين النوبيين قال صراحة: الجماعة بتوع الحكومة بيحتفلوا بالسد الواطى، رمز تهجيرنا وتشريدنا.. وإحنا لحد الآن بنغلى ونمد إيدنا للحكومة عشان تعوضنا زى الشحاتين». المربك فى الأمر أن النوبيين يطرحون أسئلة تاريخية حول جذورهم وعاداتهم وموروثهم المدفون فى بحيرة ناصر، التى تدفقت مياهها على أنقاض حياتهم فى يوم.....، بينما لم تدخل بعد فكرة الثقافة والهوية أدمغة التنفيذيين فى الحكومة، حتى وإن بدوا متعاطفين معهم، ومتداخلين ثقافيا معهم فى وطن واحد. عادل أبو بكر، رجل نوبى عربى يشغل عضو لجنة المتابعة للملف النوبى بمحافظة أسوان، قال إن الحكومة تتعمد إفشال «المفاوضات» معنا بشأن «حق العودة»، والأماكن التى اختارتها لتوطيننا فيها تفرض علينا، دون أن يأخذوا رأينا، فأراضى وادى الأمل، التى تزعم الحكومة إنشاء مجتمع سكنى متكامل للنوبيين عليها لا تلزمنا: الأراضى الزراعية التى سنزرعها بعيدة عن السكن جدا، وبعضها يبعد 100 كيلو متر. والوادى بعيد عن بحيرة ناصر. ونطالب دائما بالعودة على ضفافها، باعتبارها المكان الذى اتفقنا على أنه سيتيح لنا عيشة تتماشى مع تراثنا وحضارتنا المبنية أصلا على ضفاف النيل. الحكومة «اخترعت» قانونا خاصا بنا فقط، يقضى بتمليك فدان واحد لكل نوبى يستحق العودة والإقامة فى قرى النوبة الجديدة، رغم أنها تعطى لشباب الخريجين فى الأراضى الجديدة خمسة أفدنة وللمزارعين النازحين من الدلتا للأراضى الجديدة، والكل يعرف أن تمليك فدان واحد يعنى تفتيت الحيازات الزراعية قبل أن نشق فأسنا فيها. وهارون حسن عز الدين زاد على كلام عادل قائلا: لا نطالب بحق العودة فقط، ولكن بإتاحة أماكن إنسانية تحفظ لنا ثقافتنا.. سبق وأن قال محافظ أسوان أننا طلبنا وادى كركر ثم رفضناه، وهذا لم يحدث، فضلا عن هذا لم تطلب جهة رسمية أو شعبية من النوبة وادى الأمل، التى خططتها الدولة لتنشىء عليها مجتمعا كبيرا لنا، واكتفت بشخصيتين من المجالس المحلية، ونحن لم نعد نعتد بالمجالس المحلية؛ لأنه لا يعقل أن يحدد فرد أو فردان فقط مصير آلاف النوبيين. وذهب المهندس النوبى هارون حسن عز الدين إلى أن الحكومة رفضت تخطيط أراضٍ لهم على ضفاف بحيرة ناصر، بدعوى تخوف وزارة البيئة من تلويث المجتمع النوبى الجديد مياه البحيرة الصناعية إذا شيدت قراهم بالفعل على ضفافها، وبدعوى أن المقننات المائية لن تستوعب طلباتنا، ثم فوجئنا بأن هناك أيادى تعمل فى الخفاء لتمكين مستثمرين من الحصول على 100 ألف فدان على ضفاف البحيرة، فبالله عليكم كيف يخافون من تلويث البيئة ويفتحون لآخرين الباب للاستثمار والتلويث بصرف المنتجعات السياحية على مصراعيه. وحين سألته «الشروق» عن أسماء الشركات، أو الخطوات الفعلية التى اتخذتها محافظة أسوان لتمكينها من المائة ألف فدان، قال إن الحكومة لم توقف قرار تخصيص أراضى البحيرة للمستثمرين، لكنها جمدته فقط لتهدئة الموقف. ماذا تريدون من الحكومة؟ سؤال طرحته «الشروق» على عدد كبير من ممثلى النوبة، سواء ممن اكتفوا بالتعويضات التى وفرتها الدولة لهم على مدار أكثر من أربعين عاما، أو من النوبيين الذين لم يندمجوا فى الأعمال الحكومية، ولا تربطهم بها مصالح، ولكن فى كل الأحوال اختلفوا ولم يتفقوا، وقال فصيل «حق العودة» إنهم يطالبون بتنفيذ مطالب «14 مارس» كما سموها، ومن بينها أن يخصص لكل نوبى متضرر خمسة أفدنة، وأن يراعى فى إنشاء البيوت الطراز النوبى بمسطح لا يقل عن 400 متر مربع بما لا يتجاوز القيمة المقررة لبناء منازل المغتربين بنصر النوبة، وأن يراعى عند تحديد مواقع القرى وجود فواصل بين القرى يسمح بالتوسع ووضع تصور للظهير الصحراوى وشباب الخريجين والمعدمين وصغار المستثمرين. بينما اكتفى الفصيل الآخر، والذى يتركز فى قرى النوبة على امتداد الجبال الواصلة بين مدينة أسوان حتى نصر النوبة، بالحديث عن ترميم المساكن الآيلة للسقوط، بفعل الأراضى الطفلية التى بنيت بيوتهم عليها، أو تخصيص أراض زراعية لأبنائهم العاملين بالخارج أو فى القاهرة، وإقامة منازل بديلة لهم بموجب عقود الملكية القديمة ومستندات ملكية الأراضى الزراعية قبل التهجير؟ ماذا تريد الحكومة منهم؟ مصدر حكومى رفيع المستوى قال بوضوح: «سنبدأ فى إنشاء وادى الأمل لهم، لمنحهم أملا بأن أعمال بناء القرى الخمس الباقية (التى تخطط الدولة لإقامتها تباعا) ستنتهى قريبا، لكننا لن نقيمها، لسبب بسيط وهو أن معظمهم سبق وأن حصل على تعويضات من قبل، كما أن مطالبهم مستحيلة التنفيذ، فكيف نبنى لهم منازل على مساحات 400 متر من طابق واحد والمواطن المحروم فى قلب القاهرة يبحث عن حجرة مترين فى مترين لإيواء أسرته.. ما هذا الترف الذى يتحدثون به كأنهم ليسوا من مصر؟ ثم إن كل الأصوات التى تطالب بحق العودة وغيرها من الكلمات الدخيلة عليهم من «قوى خارجية» سيبيعون أراضيهم إذا حصلوا عليها بالفعل لمن يدفع أكثر، والكل يعرف جيدا أن المطالب التى توجه بها ممثلو القبائل لمحافظ أسوان مع بداية مجيئه تركزت على مصالح قبلية لكل من الكنوز والفديجا والعرب على حدة، ثم اجتمعوا على مطالب واحدة فى الورقة التى سموها 14 مارس، والتى بدأوها بالتحية ل «فخامة الرئيس مبارك» والحكومة ومحافظ أسوان، ثم عادوا وتفرقوا لاختلاف المصالح فيما بينهم. أما اللواء مصطفى السيد، محافظ أسوان، فقال إنه لم يخط خطوة إلا بعد الرجوع للنوبيين أنفسهم، وبناء على دراسات تربة التى تحدد طبيعتها ودرجة خصوبتها للزراعة وتحملها لإقامة منازلهم عليها، وبناء على ذلك سيتم إنشاء 1500 مسكن كأسبقية أولى للنوبيين غير المقيمين فى محافظة أسوان فى منطقتى وادى الأمل وخور قندى بأبو سمبل، من خلال القوات المسلحة ووزارة الإسكان من إجمالى 5 آلاف و221 مسكنا شاملة المرافق والخدمات، وبانتهاء المرحلة الأولى سيتم استكمال باقى المراحل فى 4 مناطق أخرى، كما يجرى استصلاح ألف فدان كمرحلة أولى من إجمالى 10 آلاف فدان تم تخصيصها من 3 آلاف فدان تعويضات فعلية و7 آلاف فدان منحة مجانية من الرئيس. أما بخصوص النوبيين المقيمين فى نصر النوبة الذين يتضررون من منازلهم المتشققة «فأرجو من كل واحد منهم أن يقدم إقرارا كتابيا واضحا موثقا فى الشهر العقارى بإعلانه رفض المكان الذى يقيم فيه واستبداله بمنزل آخر «وأنا تحت أمره». ونفى المحافظ بشدة إقامة أى مشروعات استثمارية حول بحيرة ناصر، باستثناء مشروع زراعى على مساحة 1500 فدان تابع لشركة اللحاء، حيث قامت وزارة الزراعة بتخصيص الأرض للشركة منذ عام 2002، علما بأن البحيرة تعتبر محمية طبيعية طبقا للقرار الصادر فى 2009 من اللجنة الوزارية الخاصة بمناقشة استراتيجية تنمية وإدارة الموارد المائية والرى برئاسة الدكتور أحمد نظيف، رئيس مجلس الوزراء، كما أن البحيرة تعتبر مخزونا استراتيجيا للمياه، وغير مسموح بتعرضه للتلوث بإقامة مشروعات زراعية أو سياحية عليه، وهو ما دعانا لإصدار قرار من مختلف الجهات بوقف الزراعات الشاطئية على ضفاف البحيرة تماما، بعدما ثبت تلويثها لمياه البحيرة. وأضاف: على جثتى إذا حصل النوبيون وهم أخوة على أراض على ضفاف بحيرة ناصر، وعلى جثتى أيضا أن يحصل مستثمر على شبر على ضفافها، فحتى هذه اللحظة لم تصرح المحافظة بإنشاء فنادق عائمة إلا لأربعة فنادق على امتداد البحيرة. هل يتاجر النوبيون بالقضية؟ يضحك عادل أبو بكر فى استنكار. ويسأل: كيف ننعزل ونحن جزء من كيان الوطن؟ يبدى استياءه الشديد من مجرد طرح الفكرة، ويقول إننا مواطنون شرفاء، لسنا مزايدين ولا متاجرين بالقضية، لكننا نشعر بأن الحكومة تتربص بنا، بدرجة جعلتنا نشك فى أنها تختبر درجة تحملنا لها. «المصيبة» من وجهة نظره أن محافظة أسوان استغلت فقر بعض النوبيين وخيرتهم بين الاكتفاء بمنحهم مبلغ 75 ألف جنيه أو حصول على تعويض حقيقى بالبيت وقطعة الأرض، وبعض المواطنين قبلوا الحصول على المبلغ وصرفوه فى الحال لشدة فقرهم. وهو ما اعتبره إضعافا للقضية النوبية، ومحاولة واضحة من المحافظة لإفشال أى مطالب للنوبيين. بينما يقول هانى يوسف، عضو لجنة متابعة الملف النوبى بالنص: «سياسة الحكومة مش هاتنفع معانا، ستسافر مجموعة عمل نوبية فى فبراير القادم إلى سويسرا لمناقشة القضية النوبية، وحق العودة، فى إطار التقرير العام للأمم المتحدة بشأن الحريات.. نحن لا نخترع مطالب، لكن العدل يقضى فرض وجهة نظر محددة بعيدة عن العناصر النوبية التى استمالتهم الحكومة لصالحها، وسنطالب هناك بتنفيذ اتفاق 14 مارس». وحين سألته «الشروق» عن وجهة نظره فى تدويل القضية.. قال إنه حق كفله لنا الدستور المصرى، وهو اللجوء للمجتمع المدنى فى أى مكان، وعلى الحكومة أن تبحث مطالبنا بجدية». لكن فى المقابل يقول الحاج حسن عوض، عضو المجلس المحلى السابق بمركز نصر النوبة: لو حصل وعاد كل النوبيين إلى منازل توفرها الدولة لهم لن يعود من يدعون أنهم رموز النوبة، الذين «سوقت» لهم وسائل الإعلام، فى حين أنهم كلهم يعيشون خارج النوبة، وفضلوا الهجرة على العيشة فى أسوان.. من عامين فقط بدأت وزارة الإسكان فى حصر المنازل الآيلة للسقوط بنصر النوبة، وبدأت الحكومة تأخذ خطوات جادة لترميمها، لكن هؤلاء المنتفعين «لخبطوا القضية» ولم يعد هناك منزل يوحد الله مرمم جيدا. وقال: نعقد آمالا كبيرة على وادى الأمل، أما إقامة مجتمع على بحيرة ناصر فهى فكرة أقرب إلى الحلم الذى لن يتحقق، ولا ينبغى أن يتحقق؛ بسبب القرارات الصادرة عن وزارة البيئة بضرورة مراعاة ابتعاد أى منشأة أو منزل عن بحيرة ناصر مسافة 2 كم ضمانا لعدم تلويثها. أما القيادات النوبية التى تطلق شعارات «خايبة» لا فائدة منها، فأتمنى أن تتحدث عبر القنوات الشرعية المتمثلة فى مجلس المدينة والمجلس المحلى. وأضاف صابر سند، رئيس مجلس مدينة نصر النوبة أن البحيرة تعتبر الخزان المائى الوحيد من المياه العذبة غير الجوفية فى مصر، والكل يعرف أننا أوشكنا على الدخول فى أزمة مياه حقيقية. هل أشركت الدولة النوبيين فى قراراتها؟ محافظ أسوان يؤكد أن المحافظة استعانت فى اختيارها لأماكن إعادة التهجير أعضاء نوبيين من المجلس المحلى للمحافظة، وممثلى القيادات الطبيعية النوبية التى رأت لجان الاختيار أنها «متزنة». ويضيف رئيس مجلس مدينة نصر النوبة وعدد من القيادات التى اختارتها الحكومة لتمثيل النوبيين أن المحافظة أطلعتهم على كل مرحلة من مراحل التخطيط للمدن النوبية الجديدة، بما فى ذلك تصميمات البيوت التى لا تتعدى الدور الواحد، وطلب النوبيون ألا تصمم بقباب، حتى يسمح لهم بتعلية الأدوار إذا أرادوا فى ظل التكدس السكانى، ورغبة النوبيين فى إعادة أبنائهم العاملين بالخارج إلى أراضى النوبة الجديدة، حيث سيتم بناء منازل من دور واحد على مساحة 220 مترا تشمل حجرتين واسعتين و«حوش» كبير. وبطبيعة الحال، نفى الفصيل المطالب بحق العودة أن تكون الحكومة أشركتهم فى صنع القرار، أو حتى استمالتهم لها بتنفيذ بعض مطالبهم، أما حسن عزام من قرية توماس وعافية فلا يعرف شيئا أصلا عن قرارات الحكومة بشأن إعادة توطينهم، ولا يعرف ما هو موضوع «حق العودة هذا»، فقط يقول: «فيه جماعة نوبيين شايفين إن لنا حقوق عند المحافظة من أيام التهجير قبل السد العالى وخزان أسوان، واحنا كل اللى نعرفه شغلنا وحالنا ومحتالنا وبس». ويقول حسن عوض، عضو المجلس المحلى السابق بنصر النوبة، إن الدولة تشرك النوبيين فى أمورهم، لكن المشكلات التى تتصدى لها كبيرة، فقد حصلنا وقت التهجير على تعويضات ضئيلة جدا، مثل صرف تعويض عشرة صاغ على النخلة الغارقة، لذا نحتاج لأن تنظر الحكومة لمطالبنا ولمطالب الأجيال التى تلتنا من المهاجرين خارج أسوان بسبب فشلهم فى الحصول على مساكن مناسبة أو فرص عمل أو أراض لزراعتها. حسن يختم كلامه: «إشراك مش إشراك مش مهم.. المهم ترجع أراضينا فى سكن إنسانى لنا ولأبنائنا».