وأنت صغير، استعجلت بلوغ الثامنة عشرة، لتصير حرا، وتسهر حتى الثانية عشرة خارج المنزل. فى طريق العودة من المدرسة، يقنعك صاحبك بأن الثامنة عشرة ليست المرحلة الأفضل، بل الواحد والعشرين.. وها أنت تتجاوز الثلاثين دون أن ينبهك أحد. تفيق من شرودك لتستكمل «حفل المئوية»، الرواية التى منح القدر بطلاتها فرصة أخرى، ليتذكرن طابور الصباح وبهجة جرس الفسحة، لمّة حوش المدرسة والزحام أمام شباك «الكانتين». وصلت كل منهن رسالة، دعوة حضور حفل، تقيمه المدرسة لمرور مائة عام على إنشائها، دعوة جاءت فى وقتها تماما، كن بحاجة لهذا اللقاء، بعد أن أخذتهن الحياة، كل فى طريقها، عرفن بعض بسهولة، حتى «دينا»، لم يدارها نقابها. يقول بعض الكبار، إن الكتاب الأول يخرج بالأوجاع الكبرى، فيخلص صاحبه من بعض الآلام، ويخفف عنه الحمل. أحيانا تكون سيئ الحظ، ويأتى همك الشخصى قاسيا، فيطفح على العمل، ليصبح مفتعلا. لكن رضوى الأسود محظوظة، ولمّس همّها مع الهمّ العام، فوجد طريقه إلى القلب بسهولة، وتجد أنك تجاوزت عن شىء بسيط من التكرار، آفة الكتابة، فهو لم يتجاوز حروف الجر، تقول لنفسك. أو بعض الجمل الحوارية المربكة، مثلا، لغرابتها على أصحابها، ويساعدك النفس الحُلو على تحسس طريقك وسط الزحام أحيانا، وتعرف سبب حماس الكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد فى دردشة ليلية عن الرواية التى نشرها فى «بيت الياسمين»، ضمن عدد من أعمال الشباب. وتكتشف السر وراء كثافة الحضور فى صور حفل التوقيع، ومساهمة الكاتب سعيد الكفراوى فى تعميد الكاتبة، وبهجة كلمته على الغلاف الرائق الذى صممته التشكيلية سعاد عبدالرسول. بطلات رضوى الأسود تعيسات، جاء عليهن المجتمع بما لا تشتهى الأنفس، فهذه زوجة تعيش مع عائلة ظالمة زحفت عليها آثار التدين الخليجى، وتلك فتاة جميلة اختارت الحرمان من الحب بعد أن استدركها زير نساء وفض بكارة جسدها ورأسها، وتجد أخرى تعيش الحياة بمنظرين، أحدهما لزوجة أدركت أنه لا ذنب لزوجها فى جفاء مشاعرها نحوه فعاشت باردة المشاعر، والآخر لفتاة جامعية أبهرها «سفيان» بثقافته وحضوره المبهر.. يتقابلن يوم الحفل، فى جلسة كانت كافية لتخفيف المآسى، وإيقاظ المرح من سباته. ولأن «الكتابة فعل فاضح»، كما ترى، سوف تعرف بسهولة أن وجه الكاتبة الضاحك غالبا فى الصور، وتعليقاتها المبهجة على صفحات الأصدقاء، يدارى نفقا إنسانيا طويلا، جدرانه مليئة بصور الصراعات الاجتماعية، والخوف من المستقبل، أو عليه، حتى لو حاولت تمويه القارئ عن أنها الحكاءة الوحيدة فى الرواية. فمنذ البداية، تحيلك الراوية إلى سارد آخر، وتكتفى هى بمشاركتك القراءة. تموت أمها، وفى ليلة العزاء تزورها فى المنام، وتدلها على خبيئة غالية. تصحو الابنة من نومها مؤمنة بالرؤية، وتسرع إلى الصندرة، فتجد مخطوطة رواية كتبتها الأم فى منتصف عمرها تقريبا.. وتعترف: «قمت بكتابتها فى لحظة فارقة من حياتى، كنت أريد الخروج فيها من شرنقة الخوف والعتمة، إلى نور إثبات الذات». مقدمة غنية تركتها الأم لابنتها، كانت دلالتها كافية للمتلقى، كى يتحسس نتوءات حياتها، لم تكن مضطرة إلى التدخل أحيانا، دون شعور منها، لتوجيه القارئ بين حين وآخر إلى بعض الأمور. واللجوء إلى حيلة فنية غير مرضية، كأن نجد أغلب بطلات العمل موهوبات فى فعل الكتابة، أو تصدير الكاتبة لبعض المعلومات التاريخية والتشكيلية، اعتمادا على ثقافة عامة، ما كان يجب لها أن تظهر بهذا الوضوح. ولكننا اتفقنا منذ البداية أن العمل الأول كالضغط على جرح حى، تخلصت الكاتبة من وخزه، صرخت مع نزيفه كى ننتبه، ولطخت دماؤه أفكارا سوّست ريادتنا وثقافتنا التى تحاكى بها الجميع فى زمن مضى، وباتت تنحنى خضوعا للحلال والحرام. فراحت رضوى الأسود: «تفك أزرار الخجل، وتخلع معطف القيود، وتطارح طيشها الغرام، وتمارس فعلا فاضحا اسمه الكتابة»، ربما تكتشف ذات يوم، أن التأمل لم يضع هباء، وأن «الإجابات تأتى أحيانا بحجم الأسئلة».