كان أمل المفكرين اليساريين فى العالم فور وقوع الأزمة الاقتصادية النظرة فى خريف عام 2007، أن يخرج العالم منها، وقد وضع من التشريعات والقواعد ما يلجم به اليمين المتطرف الذى كانت قطاعاته المالية أحد أهم أسباب الأزمة. ويمنعه من تكرار تجاوزاته. وقتها تحمست أجهزة الإعلام وخصوصا ذات الميول الليبرالية، وضغطت منظمات المجتمع المدنى، ووضعت بعض الحكومات لوائح وقواعد حديثة لتنظيم عملية القروض ورهن العقارات، وشمرت حكومات عن سواعدها لتلبية المطالب الجماهيرية الواسعة بإجبار كبار موظفى المصارف والمؤسسات المالية على تخفيض مكافآتهم السنوية. كذلك طولبت الحكومات بدعم صناديق الرعاية الصحية والاجتماعية واستعادة ثقة المواطن فى كفاءة الأنظمة المالية والبنوك المركزية واستقلال الحكومات عن نفوذ رجال المال. مرت شهور كثيرة عبأت خلالها حكومات الغرب ومؤسساته الاقتصادية جميع قواها لإقناع المواطنين بأن الأزمة تنحسر. ونجحت حكومات بعينها، وخصوصا الولاياتالمتحدة، فى الالتفاف حول بعض جوانب الأزمة العالمية بزيادة الإنفاق غير عابئة بتفاقم العجز فى الموازنة العامة للدولة وتلاعبت فى أرقام البطالة والتضخم. بعضها ركز بصفة أساسية على إنقاذ أهم صناعاته وأضخمها على أمل أن أى نجاح يحققه هذا القطاع قد يشد صناعات أخرى ويعيد الثقة إلى سوق الاستثمار والاستهلاك. ●●● كان وقع الأزمة مضاعفا فى الولاياتالمتحدة باعتبارها القوة المحركة للرأسمالية العالمية والمسئولة أساسا عن الأزمة. فى الوقت نفسه كانت الأزمة تتفاعل بشكل آخر فى الاقتصادات الأوروبية باستثناء المانيا،. لم يكن باستطاعة معظم دول أوروبا وخصوصا الدول الأقل ثراء أن تسمح بتفاقم عجز موزاناتها كما فعلت أمريكا إذ إن ارتباطها بمنطقة اليورو يحرم عليها أن تفعل ذلك، بل كان هذا الارتباط نفسه هو الذى دفع بحكومات اليونان وإسبانيا وأيرلندا والمملكة المتحدة إلى تعريض مجتمعاتها لحالة خطيرة من عدم الاستقرار السياسى والاجتماعى حين فرضت إجراءات تقشف لتحصل على معونات من الاتحاد الاوروبى وصندوق النقد الدولى. بمعنى آخر قررت دول العالم الرأسمالى تقليص الإنفاق على التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية أى كل ما يرتبط بمصالح الطبقات الوسطى والدنيا، باعتبار أن حل الأزمة فى النهاية يعتمد، حسب رأى اليمين المتطرف، على تضحيات أكثر من جانب الفقراء ومتوسطى الحال وعلى استعادة ثقة الأغنياء فى النظام المصرفى. لا يهم ما تسببت فيه مظاهرات العمال فى مدن اليونان وإسبانيا وأيرلندا من خسائر مادية وفتن اجتماعية، ولا يهم إن كانت مظاهرات الطلبة فى لندن أساءت لسمعة بريطانيا فى أوروبا وخارجها بعد أن كانت بريطانيا الدولة التى سخرت من فرنسا عندما شلت المظاهرات الحياة فيها لأسابيع عديدة.. ●●● مرت أيام كانت صور العديد من شوارع أوروبا تذكرنا بما كنا نقرؤه عن ثورات اجتماعية شهيرة نشبت فى القرن التاسع عشر وعادت فاشتعلت فى مطلع القرن العشرين. أربع على الأقل من هذه الثورات أقامت أنظمة حكم شديدة التطرف، اثنتان فى روسيا والصين واثنتان فى إيطاليا وألمانيا. نشهد حاليا عودة اليمين المتطرف منتصرا ومصرا على إعادة الأمور إلى نصابها، بمعنى وقف مزاج التغيير الذى ساد فى أوساط الشباب وقطاعات عديدة فى الطبقة الوسطى الأمريكية فى السنوات الأخيرة من حكم الرئيس بوش وهو المزاج الذى حمل باراك أوباما إلى البيت الأبيض. يقال الآن إن اوباما باستسلامه لمطالب اليمين المتطرف خيب ظن أنصار التغيير وبخاصة اليسار فى الحزب الديمقراطى وعدد نشطائه لا يقل عن 600000 عضو. ●●● لا يتوقف الزحف اليمينى فى أمريكا عند حدود الاقتصاد. فاليمين المتطرف زاحف نحو شئون الهجرة والأمريكيين من أصول غير بيضاء ومنهم المسلمون، وزاحف نحو السياسة الخارجية حيث نراه يطرح وبقوة وشراسة شباك حرب باردة بعد أن اختار الصين طرفا ثانيا فيها.. نعرف من تجاربنا السابقة مع أمريكا أن المسئولين العرب سيبررون عودة أوباما عن وعوده أو عجزه عن تحقيق أى إنجاز نحو حل مشكلة الصراع الفلسطينى الإسرائيلى بالضغوط الصهيونية. آخرون سوف يبررونها بضغوط اليمين الصاعد من جديد وأنصار المحافظة على الوضع القائم فى النظام الدولى. وأستطيع أن أتوقع أن اليمين المزود الآن بطاقة شبابية ودينية متطرفة لن يتخلى عن موقع الولاياتالمتحدة والواقع القائم ببساطة، أتوقع أيضا أن يدخل حربا باردة أو حتى ساخنة لو شعر بأن العالم بالفعل يتغير ويخرج عن هيمنته. ولن نجد صعوبة فى استطلاع هذا التوجه فمؤشراته عديدة، أولها وأهمها التصعيد المبالغ فيه فى الحرب الكلامية الناشبة بين الولاياتالمتحدة والصين. وهو ما تجلى بوضوح فى الحملات الإعلامية الأمريكية ضد مواقف الصين فى الأزمة بين الكوريتين. يسأل قادة التيار اليمينى الصاعد من جديد والمتحفز، هل كان يمكن أن تحقق كوريا الشمالية ما حققته على صعيد التكنولوجيا النووية بدون دعم من الصين. من ناحية أخرى فتح من جديد ملف علاقة الصين بالقدرة النووية لباكستان وملف تشجيع الصين وإيران لكوريا لزيادة صادراتها من السلاح. وقد نجحت تيارات اليمين الأمريكى والأوروبى فى إغضاب الصين عندما فتحت ضدها معركة دبلوماسية حول منح المنشق الصينى جائزة نوبل، مع علمها المسبق بأن الصين لن تغفر لأمريكا هذا الموقف وسترده بمواقف أشد فى قضايا تهم أمريكا وتؤذى مصالحها. من ناحية ثالثة، تجاسرت صحف يمينية فى أمريكا مثل صحيفة وول ستريت جورنال التى تعمدت استخدام عبارات من قاموس الحرب الباردة والحرب ضد الإرهاب ومنها عبار ة تضع الصين فى محور الشر. ويقصدون بمحور الشر بكين وبيونج يانج وطهران ودمشق. وقد قرأنا مؤخرا لكاتب يمينى كبير يعاتب أوباما لأنه طلب من الصين المساعدة فى حل مشكلة نزاع الكوريتين، كتب يقول «ما الداعى لنطلب من الصين المساعدة فى حل مشكلة هى السبب فيها». ●●● يصعب إنكار وجود مؤشرات على أن اليمين يتقدم فى مواقع مؤثرة فى العديد من الدول الكبرى وفى الدول الناهضة والساكنة على حد سواء وفى بلدنا. يتقدم فى أمريكا عن طريق الانتخابات البرلمانية وانتخابات حكام الولايات ويتقدم عن طريق الضغط على الرئيس أوباما إلى حد أنه دفع به إلى الخروج على إرادة التيار الغالب فى حزبه الديموقراطى انقلب على التيار الغالب فى حزبه لإرضاء قوى يمينية لا شك أنها صارت أقوى مما كانت. ويتقدم اليمين فى أوروبا، وقد رأينا فى الأيام الأخيرة كيف أن حكومات جاءت إلى الحكم ترفع شعارات اشتراكية لم تلبث أن تخلت عنها عند أول مواجهة مع ضغوط من القوى الإقليمية والمؤسسات الدولية وأغلبها يطرح حلولا يمينية لمشكلات عجز الموازنات وسداد القروض وزيادة البطالة وبطء النمو. ويتقدم اليمين، وهو لم ينحسر على كل حال خلال الأربعين عاما الأخيرة، فى الدول العربية، فالأولوية هى بدون منازع لتحالف سياسى ومالى يزداد وثوقا ومنعة بين الحكام وأغنياء المجتمع، وهى أيضا لمصالح الأغنياء قبل الفقراء بحجج الإصلاح الاقتصادى والحاجة إلى الاستثمارات الأجنبية والحاجة الأشد إلى كسب رضاء القوى والمؤسسات المالية الدولية. ويكلل مسيرة اليمين فى العالم العربى تمسك جميع حكومات المنطقة بسياسات أمنية واقتصادية تضمن «تثبيت» الوضع القائم. ●●● تلفت النظر عند الحديث عن تقدم اليمين فى العالم العربى ظاهرة تحتاج إلى مناقشة واسعة، وهى أن هذا التقدم لم يعتمد على انضمام شرائح جديدة من الشباب والكبار فى المجتمع وعلى دعم النخب الحاكمة بقدر ما اعتمد على عمليات النزوح المتعاقب والمتزايد من جانب ناشطين قدامى وأعضاء منظمين فى أحزاب وحركات يسارية. وتقدم لنا التجربة المصرية خير مثال. إذ بينما تهيمن على مواقع التوجيه والسياسة والاعلام فى الحزب الحاكم عناصر نشأت سياسيا وتدربت حزبيا فى حضن سياسات وقيادات يسارية فى الحزب الحاكم الأم، أى قبل عقود، تتكالب قيادات فى الحزبين اليساريين الرئيسيين، وهما الناصرى والتجمع، لتحظى بحق الدوران فى فلك الحزب الحاكم. هكذا فقد اليسار المصرى بعض صدقيته وأغلب مكانته وتقدم اليمين بجميع فصائله وألوانه وعقائده.