فى أوائل يونيو من عام 2007 طالب عضو الكونجرس، رئيس لجنة المخصصات ديفيد أوباى، أعضاء مجلس النواب الأمريكى بتعليق 100 مليون دولار من المعونة العسكرية لمصر قائلا : على الرغم من أننى صديق حميم لمصر إلا أن الكونجرس مجبر على اتخاذ خطوة جادة قبل أن تتفاقم مشكلة تهريب السلاح إلى غزة، على حد ما جاء فى محضر الجلسة. دعوة أوباى لتعليق جزء من المعونة العسكرية لمصر لم تكن الأولى بل سبقتها ثلاثة مشروعات قوانين تبنت نفس الموقف فى الأعوام الثلاثة التى سبقتها، إلا أن كلا منها اختلف فى لهجته والأصوات التى حصل عليها حتى حظى المشروع الأخير بالأغلبية فى مجلس النواب ولم يمرره مجلس الشيوخ بعد تدخل وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس. ملف «تعليق المعونة» لم يكن سوى ستار لحجم توتر العلاقات بين القاهرةوواشنطن طوال فترتى الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش، الذى اعتاد أن يستخدم القنوات العلنية كوسائل الإعلام فى التعبير عن الخلافات مع النظام المصرى سواء فى الشأن الداخلى أو الملفات الإقليمية. ومع بداية عام 2009 تغير شكل العلاقات بين مصر والولاياتالمتحدة مع وصول إدارة أمريكية جديدة على المستويات التشريعية والتنفيذية والإعلامية. فعلى المستوى التشريعى زار مصر أكثر من 10 وفود للكونجرس فى أقل من 90 يوم، وذهبت إلى واشنطن ثلاثة وفود من البرلمان والحزب الوطنى الديمقراطى، أولها زيارة جمال مبارك أمين لجنة السياسات، وآخرها الزيارة الحالية التى يقوم بها بعض النواب من مجلسى الشعب والشورى. أعضاء الكونجرس الذين طالبوا طوال الأربعة أعوام الماضية « بمعاقبة النظام المصري» مازلوا يشغلون نفس المناصب، وعلى رأسهم ديفيد أوباى رئيس لجنة المخصصات الذى التزم الصمت فيما يخص العلاقات مع مصر طوال الشهور الستة الماضية، تجاوبا مع الأغلبية الديمقراطية؛ ليكون عام 2009 هو الأول منذ أربع سنوات الذى لايناقش فيه الكونجرس تعليق المعونة العسكرية عن مصر. وعلى المستوى التنفيذى لم تكد تنتهى المائة يوم الأولى للرئيس باراك أوباما حتى وجه دعوة للرئيس حسنى مبارك لزيارة البيت الأبيض، بعد 4 سنوات من آخر زيارة لمبارك إلى واشنطن، لعدة أسباب بينها انتقادات علنية صدرت عن مسئولى الإدارة السابقة حول أوضاع حقوق الإنسان والديمقراطية فى مصر. وفيما يخص الإعلام الأمريكى فقد بدت خريطة أولوياته مختلفة فيما يخص مصر فى الأشهر القليلة الماضية، فبينما استمرت صحف مثل الواشنطن بوست فى المطالبة ب«إصلاح ديمقراطى حقيقى فى مصر» ركزت معظم التغطيات على الدور الذى يمكن أن تقوم به مصر فى الملفين الفلسطينى والإيرانى، أبرز الأمثلة كان حوار المفكر الأمريكى فريد زكريا مع جمال مبارك فى الشهر الماضى الذى لم يتحدث فيه عن ملفى الديمقراطية وحقوق الإنسان. التغيير على الثلاث مستويات رصده أيضا جون ألترمان رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط بمركز الدراسات الدولية والاستراتجية. وقال فى حوار خاص ل «الشروق»: إن الإطار الخارجى للعلاقات بين البلدين تغير فى الأشهر القليلة الماضية، فبعد سنوات من سياسية «المحاضرات والأوامر» التى انتهجها الرئيس جورج بوش تجاه مصر، يبدو أن الشكل سيتغير ولكنه ليس واضحا، خاصة أن فى جوهر العلاقات تبرز خلافات حقيقية. ويضيف ألترمان أن الخلافات الجوهرية إزاء بعض القضايا تعوق البلدين فى بعض الأحيان عن تعميق التعاون حتى على صعيد الملفات التى يتفقان فيها بشكل كامل. ويتابع ألترمان الذى عرف بعلاقاته القوية بالنظام المصرى قائلا : على مدى العقدين الماضيين غيّر تحالف الولاياتالمتحدة ومصر خريطة المصالح فى الشرق الأوسط، لذا فالنظام المصرى يشعر بأن الولاياتالمتحدة تناست المساعدات الاستراتيجية التى قدمتها مصر له فى العديد من الملفات المهمة، اما واشنطن فتشعر أن النظام المصرى يستخدم الدعم الأمريكى للدور المصرى حجة «لفعل ما يحلو له» وخاصة فيما يتعلق بالوضع الداخلى الذى كان «سببا فى إحراج البيت البيض» أمام الكونجرس والإعلام الأمريكى. جون ألترمان يمثل تيارا كبيرا فى واشنطن يطالب بإعادة صياغة العلاقات المصرية الأمريكية التى قامت شرعيتها على مشروع السلام فى الشرق الأوسط، قائلا إن الأوضاع فى المنطقة العربية تغيرت بشكل جذرى عما كانت عليه بعد انتهاء الحرب الباردة، ويشرح ألترمان الذى قدم العديد من الشهادات أمام الكونجرس بنفس المضمون: «بشكل تدريجى تتجه معظم الدول العربية لقبول إسرائيل، اللاعبين الإقليميين تعددوا بشكل واضح كتركيا والسعودية، وأحيانا دول صغيرة مثل قطر، وفى المناطق التى تحتل أهمية قصوى للسياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط مثل باكستان وأفغانستان، نجد مصر ليست لاعبا أساسيا فيها. فالمشكلة الحقيقية، كما يشير ألترمان، خلف التوتر الذى ساد العلاقات فى الفترة الماضية أنه ليس هناك مشروع كبير تجتمع البلدان على التصدى له، كما أنه لا توجد خريطة مستقبلية واضحة لتبادل المصالح بين القاهرةوواشنطن تتجاوز الإطار الذى أديرت فيه العلاقة الثنائية حتى الآن من حيث تثبيت الاستقرار فى المنطقة. ويقول إنه يعتقد أن الإدارة الأمريكية فى طريقها لصياغة سياسية جديدة للعلاقات مع مصر، مع الأخذ فى الاعتبار أن هذه العلاقة ستبقى مرتكزة على ملفات مثل القضية الفلسطينية التى يعى الجميع فى واشنطن أن مصر لها مصالح فيها مثل واشنطن بالضبط. ومن ناحية أخرى، كما يضيف ألترمان، على الولاياتالمتحدة أن تتخلى عن بعض الحرج الذى تسببه لها السياسات المصرية الداخلية عن طريق تقليص حجم ملفات التعاون والتركيز على الملفات «الحرجة»، فالعلاقات بين مصر والولاياتالمتحدة لابد أن توضع فى حجمها الحقيقى. بعض الخبراء المعنيين بملف العلاقات المصرية الأمريكية يتفق مع ألترمان إلا أن ميشيل دنن، كبير باحثى معهد كارنيجى فى واشنطن، أعربت فى حوار للشروق عن اعتقادها بأن كلا من الجانبين المصرى والأمريكى يعمل حاليا «بشكل منفصل» لإخراج شكل جديد للعلاقة بين البلدين خلال السنوات القليلة المقبلة. وتقول دنن إنها تابعت قيام كل من واشنطنوالقاهرة بإعادة «ترتيب أوراقه لهذه المرحلة». وحسب دنن فإن مصر من جانبها سعت خلال الثلاثة أشهر الماضية بوضع نفسها موضع ثقة للإدارة الأمريكية كقناة للتفاعل مع حركة حماس، رغبة منها فى إعادة وضع مصر مركزا لعملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين الذى يعتبر على رأس أجندة أوباما فيما يخص سياسته فى المنطقة، وبالهجوم الأخير الذى شنته مصر على حزب الله أرادت القاهرة أن تضع نفسها فى مركز يدور حوله حلفاء الولاياتالمتحدة وحلفاء إيران، فى الوقت الذى سعت فيه إدارة أوباما للحوار مع دمشق وطهران وهذا يقلق «نظام مبارك بشكل كبير». الملف الثانى كما تقول دنن، التى عملت بمجلس الأمن القومى بإدارة الرئيس بيل كلينتون، هو شأن داخلى، حيث تعلمت مصر من أخطاء السنوات الماضية فيما يخص ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان.. «النظام المصرى يسعى حاليا لتجهيز المسرح للسنوات الثلاثة المقبلة التى ستشهد انتخابات برلمانية ورئاسية، وفى الوقت الذى تبدو أجندة إدارة أوباما غير واضحة حول الأوضاع السياسية الداخلية لمصر، فإن القاهرة تسعى لإظهار عدم الاستقرار الذى قد يشكله أى تحول مفاجئ فى الوضع السياسى والذى قد يعرض مصر الدولة الأهم فى الشرق الأوسط لاختراق من قبل حزب الله وحماس، أذرع إيران الرئيسية» على حد وصف دنن. مسئول سابق بوكالة الأمن القومى قال أيضا «للشروق»: إن إدارة أوباما لن تكرر أخطاء بوش فى تحويل الملف الداخلى المصرى للكونجرس خاصة أن إدارة بوش قامت بذلك فى فترتها الرئاسية الأولى، ولم تستطع إدارك ذلك فى الفترة الرئاسية الثانية بعد أن حقق الديمقراطيون الأغلبية فى الكونجرس، ولم يعد فى إمكانها سحب أو إعادة ملف حقوق الإنسان والإصلاح السياسى إلى الكونجرس، وبات فى النهاية ورقة ضغط على رقبتها ورقبة النظام المصري. من جانبهم يقول دبلوماسيون مصريون: إنهم واثقون من أن الخلافات بين القاهرةوواشنطن وهى المشاكل التى ستبقى عميقة ومتعددة كما يشير أحدهم ستكون أقل ازعاجاً للقاهرة عما كان الحال عليه مع إدارة بوش. ويقول دبلوماسى مصرى معنى بمتابعة ملف العلاقات الثنائية: «إننا نعلم ان أعضاء الكونجرس سيكون لديهم انتقادات لا تنتهى حول أوضاع حقوق الإنسان والديمقراطية فى مصر، وان هذه الشكاوى ستنقل إلى الإدارة الأمريكية وستأتى بعد ذلك إلى القاهرة، ولكن ما يهمنا هو أن يتم التعامل مع هذه القضايا من خلال القنوات الدبلوماسية وليس من خلال اللغة المتعالية التى استخدمتها الإدارة السابقة بلا حصافة على الإطلاق». وحسب نفس الدبلوماسى فإن القاهرة تتوقع خلافات مع إدارة أوباما تتجاوز ملفى حقوق الإنسان والديمقراطية فى مصر. وعلى سبيل المثال فإن القاهرة «غير مرتاحة على الإطلاق» لمستوى الانفتاح الأمريكى على إيران وترى ضرورة أن تقوم واشنطن «بضبط هذا الانفتاح». القاهرة لديها أسئلة حول مصير الوضع الأمنى فى العراق مع انسحاب القوات الأمريكية وتغلغل النفوذ الإيرانى وتأمل بأن يكون لدى واشنطن صورة واضحة حول سبل التعامل مع هذا الملف. كما أن القاهرة ايضاً قلقة من التأثيرات التى تتعرض لها الإدارة الأمريكية من أعضاء الكونجرس من أصحاب الأصل الأفريقى فيما يتعلق باتخاذ مواقف حادة من السودان. ويقول الدبلوماسى المصرى: «الخلافات لم ولن تنته، ونحن نتوقع مشادات حول سبل إدارة المعونة الاقتصادية الأمريكية لمصر ولكن ما يهم هو أن الحساسية التى سيطرت على العلاقة بين القاهرةوواشنطن خلال الأعوام الأخيرة الماضية التى حالت دون قيام الرئيس مبارك بزيارته السنوية إلى الولاياتالمتحدة لمدة خمسة أعوام متتالية قد زالت».