بالرغم من أنه مازال مبكرًا للغاية طرح أى تصور ذى مغزى حول تأثير تسريبات موقع ويكيليكس المتعلقة بالسياسة الخارجية الأمريكية، فقد يكون الوقت مناسبًا لإلقاء الضوء على ما تقوله البرقيات الدبلوماسية المُسربة حول كيفية فهم الجمهور لطريقة عمل السياسة الخارجية. وقد برر الموقع تسريبه لوثائق سرية تخص وزارة الخارجية الأمريكية بأنه كلما عرف الناس المزيد حول كيفية إدارة الحكومة لعلاقاتها الخارجية، كانت النتيجة أفضل. وتُعتبر هذه فكرة قديمة. ذلك أن وودرو ويلسون قد دعا إلى «معاهدات سلام معلنة، يتم التوصل إليها بصورة مكشوفة». لكن التاريخ يبين أيضًا أن الدبلوماسية المفتوحة تكتنفها عيوب قاتلة فى كثير من الأحيان. تُعتبر السرية جزءًا أساسيًا من نجاح أية مفاوضات. فلا يمكن التوصل إلى اندماج بين شركتين، أو طلاق ودى، أو تسوية سياسية مهمة، من دون توافر مستوى موثوق به من السرية. وتُعد السرية فى العلاقات الخارجية أهم منها فى أى مجال آخر. فعلى سبيل المثال، لو كان الدبلوماسيون الذين تفاوضوا بشأن نهاية الحرب الباردة وتوحيد ألمانيا مضطرين إلى أن يكشفوا أمام الجمهور خلافاتهم، ومقترحاتهم المقبولة من البعض والمرفوضة من البعض الآخر، ولغتهم السيئة فى التواصل مع بعضهم البعض على سبيل المثال، معارضة مارجريت تاتشر للوحدة الألمانية فى مقابل إصرار هيلموت كول على تحقيقها ما كان ممكنًا إجراء مفاوضات مجدية. كما كانت السرية أمرًا حيويًا فى أعقاب الحرب العالمية الأولى. فبعد سلسلة من التسريبات المنهكة، قرر قادة الدول الأربع الكبرى المنتصرة بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة التخلى عن سياسة الدبلوماسية المفتوحة وعقدوا جلسات مغلقة. وهنا فقط استطاعوا الإبحار عبر التفاصيل الصعبة لاتفاقية فرساى وتوصلوا إلى سلام نهائى بالرغم من أنه كان قصير الأجل نسبيًا. حظيت تسريبات ويكيليكس بمديح الكثيرين ممن يعتقدون أنها سوف تسمح للجمهور بمحاسبة الحكومة بصورة أفضل، مما يؤدى إلى تحسُّن السياسة الخارجية الأمريكية. لكنه على العكس من ذلك، تدفع مثل هذه التسريبات أولئك الذين فى السلطة إلى التراجع نحو الظل، دفاعًا عن أنفسهم ومناصبهم. ولننظر كيف تخلص ريتشارد نيكسون وهنرى كيسينجر من جميع مستشاريهم باستثناء الدائرة الداخلية بعد نشر أوراق البنتاجون. ولكى نكون منصفين، هناك قيمة للتسريبات التى تجرى فى لحظة استراتيجية مناسبة. فعلى سبيل المثال، فى عام 1870، سرب أوتو فون بسمارك، رئيس وزراء بروسيا، رسالة سرية من الملك فيلهلم الأول عن اجتماعه مع السفير الفرنسى. وحرر بسمارك الوثيقة بطريقة تعطى انطباعًا بأن فرنسا تقدمت بمطالب غير مقبولة إلى الملك (وهو ما كان حقيقيًا)، وأن فيلهلم تصرف بطريقة غير مهذبة، حيث دعا السفير للتوجه إلى باب الخروج (وهو ما لم يحدث). وضعت هذه الخطوة كرامة البلدين على المحك، وألهبت المشاعر الوطنية على الجانبين، مما أدى إلى تطور الأزمة إلى حرب انتهت بالانتصار التام لبروسيا، ومن ثم تحقق هدف بسمارك بتعزيز قوة بروسيا فى وسط أوروبا. وأيًا كان ما يراه المرء بخصوص أهداف بسمارك، فقد أدى التسريب المحسوب والمحدد الغرض منه جيدًا. ولكن تسريب مراسلة دبلوماسية من أجل التأثير على السياسة الخارجية سواء قام بذلك حكومات أم أفراد من خارج السلطة يشبه استخدام الديناميت فى منطقة بناء. فقد يكون هذا العمل مفيدًا، إذا قام به خبراء بعد تحليل دقيق للأخطار المترتبة عليه مثل نسف جزء من تل من أجل تمهيد طريق. لكن تسريبات ويكيليكس التى جاءت على نطاق واسع غير مسبوق تاريخيًا على حد علمى أمر مختلف تمامًا، مثلما هو الحال مع استخدام هواة مستهترين للديناميت فى توسيع نفق يحوى خطوط الكهرباء بالمدينة. ومع أن التسريبات قد لا تؤدى إلى حروب أو حتى أزمات كبيرة، لكنها سوف تضر بشدة بآلة وعمليات وسمعة الدبلوماسية الأمريكية. ولا يعنى أىٌ من ذلك أن المراسلات الدبلوماسية والمفاوضات يجب أن تبقى سرية إلى الأبد، لكن وباستثناء حالات خاصة، يجب الإعلان عن الاتصالات السرية فقط بعد استقرار المشاعر وفحص الخبراء للوثائق بطريقة أشمل. وفى الدول الديمقراطية بشكل خاص، يجب أن تستهدف المفاوضات التوصل الهادئ إلى اتفاق، يتلوه تصديق المشرعين المنتخبين عليه أو رفضهم له. وبمعنى آخر، مواثيق سلام علنية، يتم التوصل إليها بصورة سرية.