بحلول عامه الرابع عشر، كان جوليان أسانج، مؤسس موقع ويكيليكس، قد غير مكان إقامته 37 مرة. وبحسب قول رافى خاتشادوريان فى الخلفية التى كتبها عن أسانج فى نيويوركر، رفضت والدته إدراجه فى مدرسة محلية خشية أن يتسرب إلى نفسه احترام غير صحى للسلطة. وما كان عليها أن تشعر بالقلق. ذلك أنه عندما كان قرصانا صغيرا من قراصنة الكمبيوتر، كون مجموعة أطلق عليها «المخربين الدوليين». وعندما أصبح شخصا بالغا، كتب هجاء ذا مظهر فكرى زائف بعنوان «المؤامرة باعتبارها حُكما»، تحدث فيها عن «شبكات الحماية» الواسعة التى تقيد الروح الإنسانية. وكان أسانج لا يحترم السلطة، وبدا فوضويا من الطراز القديم، يؤمن بأن المؤسسات الحاكمة كافة فاسدة، وأن البيانات الموجهة للجمهور هى أكاذيب. وبالنظر إلى عقلية أسانج، كان قراره بكشف الأسرار سهلا. فإذا كان العالم الخفى مريبا، فيجب كشف جميع الأسرار. وكما أشارت نيويوركر، نشر ويكيليكس تفاصيل فنية حول جهاز يستخدمه الجيش الأمريكى فى منع انفجار العبوات الناسفة. كما كشف الموقع أرقام الضمان الاجتماعى الخاصة بالجنود الأمريكيين. وخلال هذا الأسبوع، احتفلت المجموعة القائمة على الموقع بنشر وثائق وزارة الخارجية الأمريكية، عبر بيان يزهو بالنصر يزعم أن تلك الوثائق تفضح فساد ونفاق الدبلوماسيين الأمريكيين، واستعدادهم لقبول الرشوة. وبالنسبة لأسانج، يُعتبر هذا العمل أمرا سهلا. لكنه بالنسبة للجميع، يعُد أمرا صعبا. ولا يتفق زملائى فى قسم الأخبار فى تلك الصحيفة مع الطريقة التى يفكر بها أسانج. لكنه بعدما أصبحت بيانات محررى الموقع أكثر وضوحا، أصبح زملائى يواجهون مجموعة من القضايا الشائكة. فباعتبارهم صحفيين، لديهم التزام مهنى بحرية التشارك فى المعلومات التى قد تساعد الناس على اتخاذ قرارات تستند إلى المعرفة. ويعنى ذلك طرح الأسئلة التالية: كيف تقوم الحكومة الأمريكية بحشد الحلفاء؟ ما هى الطبيعة الحقيقية لعلاقتنا مع المخابرات الباكستانية؟ وفى الوقت نفسه، فإن هؤلاء الزملاء، باعتبارهم بشرا ومواطنين، يدركون أن لديهم التزاما أخلاقيا بعدم تعريض حياة الناس أو الأمن القومى للخطر. ومن ثم، أقامت نيويورك تايمز سلسلة من الفلاتر تمنع كشف الوثائق التى حصل عليها ويكيليكس وعددها 250 ألف وثيقة بصورة كاملة أمام الجمهور. فقد قامت الصحيفة بعرض نسبة ضئيلة من البرقيات الدبلوماسية، بينما حجبت المعلومات التى قد تهدد العملاء. كما جرى وضع برقيات بعينها فى سياقها الخاص فى إطار تغطية أوسع. لكنه قد يكون من المفيد الأخذ فى الاعتبار فلتر إضافى واحد. ولنقل إنه فلتر النظام العالمى. ولعل أحد الإنجازات العظيمة التى حققتها الحضارة هى أننا نعيش فى ظل نظام، لا فى ظل فوضى. لكننا لا يجب أن نأخذ هذا النظام كأمر مضمون. ويحمى هذا النظام الجنود البواسل، وكذلك محادثات القادة والدبلوماسيين. وفى كل ثانية، ينخرط هؤلاء الدبلوماسيون فى محادثات لا تنتهى. وقد كشفت الوثائق التى سُرِبَت هذه المحادثات، وأظهرت الدبلوماسيين وهم يحاولون الحصول على معلومات، ويداهنون بعضهم البعض، ويقيمون صداقات زائفة، ويمارسون نفاقا تافها، وذلك فى أثناء سعيهم إلى منع وقوع الكوارث فى العالم. وعلى خلاف تخيلات أناس مثل أسانج، لم تكن المحادثات التى كشفتها الوثائق شائنة. ذلك أن المحادثات السرية تشبه المحادثات العلنية، لكنها أكثر إثارة للإعجاب. فيمكن رؤية الدبلوماسيين العرب والإسرائيليين يتفاعلون بطريقة ترتكز إلى التعاطف والواقعية مع بعضهم البعض. كما أن الأمريكيين ممن ورد ذكرهم فى الوثائق اتسموا بالدهاء والأمانة، فى الوقت الذى يشعر فيه بعض جيران إيران بالقلق عن حق، ومن ثم يطلبون العون. ويقول البعض: إن هذه المحادثات الدبلوماسية ترتكز إلى حسابات ميكانيكية حول المصلحة الذاتية الوطنية، وإن كشفها أمام الناس لن يكون له أثر. لكن هذه المحادثات تستند إلى علاقات بين الأطراف المشاركة فيها. وتحدد كفاءة المحادثات وفقا لمستوى الثقة السائد، بينما يتأثر توجهها بالإقناع والمشاعر الخاصة بالأصدقاء والأعداء. وتتعرض كفاءة المحادثات للضرر عند كشفها أمام الجمهور، مثلما تفسد علاقاتنا بجيراننا عند كشف جميع الشئون الخاصة فى وضح النهار. وقد رأينا ما يحدث عند تدهور المحادثات (انظر إلى الكونجرس الأمريكى)، وهو أمر كريه. وربما تؤدى نفايات ويكيليكس إلى الإضرار بالحوار العالمى. ذلك أنها سوف تقلل من ميل الدول إلى التعاون مع الولاياتالمتحدة. وسوف يقع العملاء تحت إغواء العودة إلى صوامع ما قبل الحادى عشر من سبتمبر. وسوف يشعر الزعماء بالغضب عندما يقرأون ما يقال عنهم. وربما سوف تزداد صعوبة الحفاظ على التعاون ضد إيران، بسبب شعور القادة العرب بأن ما يقومون به أصبح مكشوفا، وأنهم قد أصبحوا محاصرين. وسوف يتعرض الحوار الدولى الهش للتهديد. فقد أصبح مهددا بفعل ويكيليكس. وأصبح مهددا بفعل يشابه قانون كريشام الاقتصادى، حيث مستوى كشف الأسرار أمام الجمهور يتحدد وفقا لقرار المُسرب الأمهر والخائن الأكبر. ويجب توافر إمكانية وضع فلتر، لا من أجل حماية حياتنا وعملياتنا فحسب، ولكن من أجل حماية علاقاتنا الخارجية أيضا. ويجب كتابة مقالات حول بعض المعلومات التى كُشفت. على سبيل المثال، هل تستخدم الولاياتالمتحدة الدبلوماسيين فى التجسس على الأممالمتحدة؟ ما هى تكنولوجيا الصواريخ التى قدمتها كوريا الشمالية لإيران؟ من دون الكشف التام عن تفاصيل عمل المؤسسة الدبلوماسية. ذلك أننا نعتمد على هذه الحوارات الإنسانية فى الحفاظ على القدر المحدود الذى نتمتع به من النظام كل يوم.