قليلون هم المخرجون الذين يتمسكون بأحلامهم وأهدافهم ومواقفهم، لا يحيدون عنها عبر الرحلة والمشوار، فهؤلاء الحياة لديهم فكرة يضعون أساسها ومنهجها ويقوون من عزيمتها.. يدافعون عن مبادئها حتى لو كانوا يعزفون ضد التيار طوال الوقت. من بين هؤلاء المخرج الأمريكى أوليفر ستون الذى خاض بأفلامه حروبا ضد ممارسات ونظم سياسية وتيارات اجتماعية ليفضح ما بها من زيف وخداع وتلاعب بمجريات أمته تحت شعار «الضرورات تبيح المحظورات». وفى فيلمه الأخير «وول ستريت: المال لا ينام»، حاول أوليفر ستون عبر صورته الواقعية المؤلمة المعهودة أن يكشف كيف يتم التلاعب بأموال البشر، وقد مهد الأجواء لذلك عبر تصويره عمليات خداع كبرى تدور رحاها بين أرجاء شارع المؤسسات المالية الشهير وبورصته، ووضع يده على موطن الجرح وهو شهوة وإغراء المال، ووسط زحام المشاهد المتتالية ذى الإيقاع السريع لعمليات غسيل الأموال داخل البورصة والتلاعب بمقدرات الأسهم والحياة الاقتصادية تحت غطاء سياسى على أعلى مستوى، يطرح ستون جملته الشهيرة (المال لا ينام أبدا.. قد تغفو عيناك لكن المال يبقى يقظا فى مخدعك.. قد تتوقف دقات قلبك لكن المال ينبض بالحياة). كان الشىء الأهم الذى شغل بال المخرج الأمريكى هو أن الأجيال الجديدة أكثر بشاعة وطمعا واستعدادا للتلاعب بالأموال بطرق غير مشروعة، وأن الحكومات والسياسات هم من يضعون البذرة الأولى والأساسية لكل الأزمات المالية، التى تهز ليس فقط أمريكا بل العالم كله. كشف ستون أن لعبة المصالح هى السائدة، وأن ساسة أمريكا يتواطئون مع أصحاب البنوك الكبرى فى هز سوق المال كله والتحكم فيمن يجلس على عرشه. فى النسخة السينمائية الجديدة من «وول ستريت» وبعد مرور 23 عاما على الجزء الأول، الذى بهر العالم فنيا وفكريا، يعود المضارب الأمريكى جوردون جيكو «مايكل دوجلاس» بعد أن قضى 7 أعوام فى السجن نتيجة عمليات غير مشروعة والمستعد للقيام بأى شىء آخر حتى يصل إلى القمة وشعاره فى ذلك «الجشع الجيد». جوردون يخرج من السجن ليؤلف كتابا عن تجربته يمنحه شهرة أوسع، لكنه فقد التواصل مع ابنته التى لم ترض يوما عن عمله، ويعيش فى الوقت نفسه أزمة بُعده عن السوق، التى يعشقها، وخلال مسعاه للعودة للمجتمع وابنته يتحالف مع خطيبها جاكوب المهووس بالبورصة وبجمع المال أيضا، حيث يعمل سمسارا فى وول ستريت، وفى هذا التحالف يحاول جوردون أن يقنع جاكوب بأن يساعده مقابل أن يصالحه على ابنته، لكن جوردون يواصل التلاعب بمن حوله ويعود من جديد للأجواء وتحقيق أموال طائلة مستغلا كل ثغرات السوق والأزمة، وفى النهاية ومن باب العلاقة الإنسانية تضطر ابنته أن تصالحه وتسامحه فى مشهد مؤثر للغاية. بدون شك يضع ستون شخصية مضارب البورصة لتكون أكثر تعبيرا عن النماذج الفاسدة، التى حولت الحلم الأمريكى الكبير إلى منفعة خاصة، وليزداد مؤشر هذا الحلم اهتزازا، بل ويكاد يتلاشى أمام أطماع الجشعين، وبدون شك أيضا يجىء حضور النجم مايكل دوجلاس أكثر توهجا وبريقا وتماسكا رغم مرور هذه الحقبة الطويلة على أدائه نفس الشخصية عام 1987والمبشرة بانهيار أسواق المال عبر هذه البورصة الشهيرة، ونال عنها الأوسكار، وكم كانت لسطوة أدائه الواقعى فى النسخة الجديدة مفعول السحر ليعيد من جديد قراءة المشهد داخل عالم المال. والواقع أنه بذل جهدا كبيرا لتبقى خيوطها كامنة وحاضرة داخل عقله وفكره ووجدانه، وكأنه كان فى حاجة لمثل هذا الدور ليتلاشى معه الإحساس بالألم، الذى عبّر عن نفسه مؤخرا وكشف إصابته بالسرطان. وإذا كان «وول ستريت» به بعض التطويل، فإن هذا التطويل ذابت شوائبه عبر أداء رائع لنجومه، فبالإضافة لمايكل دوجلاس كان هناك كارى مولجان، التى جسدت دور ابنته «وينى»، حيث قدما معا عددا من المشاهد ولا أروع فى العلاقة بين رجل المال وابنته الناقمة على مهنته، وكذلك النجم الصاعد شيا لوبوف، الذى نضج كثيرا فى دور جاك. على جانب آخر جاءت اللقطات التسجيلية فى سيناريو ألان لويب ذى الإيقاع اللاهث لمضاربات البورصة بمثابة صرخات متتالية تعود للحياة مع استقرار الأسهم، ويتوقف نبضها عند الهبوط القاتل. أيضا جاءت الموسيقى التصويرية وسيطا إبداعيا للربط بين المشاهد المصدوم فيما يكشفه من حقائق وبين الكبار، الذين يسقطون واحدا تلو الآخر أمام الأعين. الفيلم الذى عرض على شاشة مهرجان كان الماضى، ولم يحظ بنفس حماس نسخته الأولى، التى تناولت فى توقيت مبكر دور شارع المؤسسات المالية فى الحياة الاقتصادية واستحواذها كبار مالكى البنوك الجشعين، وهو ما أصبح مستشريا الآن، أراه وثيقة تسجيلية رائعة لإحدى قضايا المجتمع المعاصر، وهكذا كان دائما ستون ومنذ أفلامه ( جى أف كى ولد فى الرابع من يوليو نيكسون ولدوا ليقتلوا دبليو وورلدتريد سنتر فصيلة) دون أن يبالى بأى مردود تجارى، وهى جميعا تدين مواقف اجتماعية وسياسية وعسكرية أرقت وما زالت المجتمع الأمريكى عبر أجياله. إن «وول ستريت» فضيحة أمريكية جديدة على أوراق البنكنوت تؤكد أن أمريكا ضد أمريكا، وأن أمريكا عندما تكون ضد نفسها فهى تبحث دائما عن مبرر شيطانى، وهذا الشيطان قد ينقلب إلى نهج دائم حتى لو سقطت كل أوراق التوت.