عندما سرقت لوحة «زهرة الخشخاش» للمرة الأولى، أحيطت إعادتها بالغموض، جعل البعض يشك فى زيف اللوحة المعادة، وكتب الأديب الكبير يوسف إدريس مقالا بعنوان «بالعين المجردة»، مؤكدا أن اللوحة الأصلية للفنان الهولندى الأشهر فينيست فان (1853 1890)، بيعت فى مزاد بأكثر من 40 مليون دولار. فُتح هذا الملف بعد سرقة اللوحة للمرة الثانية مؤخرا، وذهب البعض بعيدا عن المشكلة الحقيقية التى يتحدث عنها العالم وهى سرقة اللوحة، وانصب اهتمامهم تجاه ما إذا كانت أصلية أم لا، وهو أمر يستحق التوقف لإنهاء هذا الجدل، فلا يصح أن تكون وسائل إعلام الأرض مهتمة بحادث السرقة، ونستغرق نحن أصحاب الفضيحة فى البحث عن مصائب أخرى، ونصر أن يكون عذرنا أقبح من ذنبنا. حاولنا بحث المسألة، ووجدنا الإجابة عند الدكتور لواء عبدالكريم درويش عضو مجلس الشورى، وهو نفسه ضابط الشرطة الذى استطاع استعادة اللوحة بعد سرقتها للمرة الأولى، وذكر القصة فى مذكراته التى نشرت بعنوان «حصاد السنين».. يقول: «دق جرس التليفون بمكتبى بالأكاديمية، وكان اللواء نبوى إسماعيل وزير الداخلية . قال: طبعا إنت عارف حكاية اللوحة المسروقة من متحف محمد محمود خليل. قلت: طبعا، قال: توصلنا إلى أن اللوحة هرّبت إلى الكويت مع مدرس مصرى، شقيق السارق..!» وتابع الوزير: «العلاقات بين مصر والكويت مقطوعة بسبب زيارة الرئيس السادات لإسرائيل. ومن المتعذر، أن نتصل بالسلطات الكويتية فى هذه الظروف ونطلب تعاونها. وأنا وجدت أن أفضل سبيل لتحقيق هذا الاتصال أن يتم عن طريقك بصفة غير رسمية مع قيادات الأمن بالكويت، فمعظمهم من تلاميذك بالأكاديمية. قلت للوزير: «أعتقد أنهم لن يترددوا فى التعاون، وبالفعل وكيل وزارة الداخلية الكويتى صديق لى، ولن يتأخر عن تقديم أى مساعدة ممكنة». ولكن كيف تمت سرقة اللوحة من المتحف، ثم القبض على السارق، وما هى حيثيات خروج اللوحة من مصر إلى دولة الكويت ورجعوها فى أجواء غامضة؟. كان متحف محمود خليل باشا لا يزال فى مقره الأول بالزمالك، عندما اكتشفت إدارته سرقة اللوحة، وكان حدثا تناقلته أجهزة الإعلام ووكالات الأنباء العالمية، ونشطت أجهزة الأمن بجميع مستوياتها فى سباق للعثور على اللوحة قبل تهريبها أو التصرف فيها، واحتلت واقعة السرقة وصورها مساحات كبيرة من الحيز الإعلامى داخليا وعالميا بكل صنوفه. ولم يكن للناس حديث سوى لوحة فان جوخ المسروقة، كيف سرقت ومن السارق وأين استقرت؟. يجيب د. درويش: «فى البداية تولى العقيد محمد عبدالنبى مفتش المباحث الجنائية بمديرية أمن القاهرة، قيادة فريق البحث المنوط به ضبط الواقعة. وأخذت جهود البحث المكثفة مسارها العلمى بمتابعة جميع الفئات والعناصر الخطرة المسجلة، وتوصل فريق البحث إلى أن شخصا يدعى حسن العسال، وهو من أخطر الفئات المتخصصة فى ارتكاب حوادث المساكن والمتاجر بنشر الأسياخ الحديدية المركبة على النوافذ، شوهد وهو ينفق عن بذخ فى الآونة الأخيرة بما لا يتناسب مع أحواله الاجتماعية والمعيشية. وتمكن الفريق من ضبط حسن العسال، ضمن بعض الخطرين والمشتبه فيهم، وأثناء انتظاره خارج مكتب العقيد محمد عبدالنبى مفتش المباحث، افتعل مشادة مع أحد الضباط، فاقتاده إلى داخل مكتب المفتش ومعه طفلته التى كانت ترافقه وهى تبكى وتصرخ. ويذكر الكاتب على لسان العقيد عبدالنبى: «علمت من الضابط أن العسال افتعل المشادة، وأحضر معه طفلته بعد أن هدده الضابط بالاعتقال. فطلبت من الضابط الانصراف، وقمت من مكتبى، واحتضنت الطفلة الصغيرة، وهدأت من روعها، وأرسلت فى شراء حلوى لها، وسلمتها لها بنفسى، وأخذت ألاطفها حتى ابتسمت وطلبت منى السماح لها ولوالدها بالعودة للمنزل، وبعد أن هدأت الطفلة، رأيت دمعة تذرف من عين العسال وقال لى بالحرف الواحد، سيادتك مش راح تعتقلنى؟. شعر العقيد محمد عبدالنبى بصدق هذه الدمعة، وفوجئ بالمذكور يستطرد قائلا: التصرف والواجب اللى عملته مع بنتى لن أنساه لك طول حياتى... وصدقنى يا محمد بيه لو أخليت سبيلى الليلة، سأعود إليك باكر بدون بنتى وأعترف لك بما ارتكبته. يكمل عبدالنبى، المحامى بالنقض حاليا،: «استشعرت صدق هذا المجرم، وفكرت فى الأمر، ثم ناقشته مع فريق العمل الذى كان من رأيه عدم إخلاء سبيله، لكننى فى ضوء خبرتى كنت أدرك أن هذا النوع من المجرمين بشر مثل كل الناس، ومهما بلغ الواحد منهم فى الانحراف والإجرام، يظل فى داخله جانب من الخصال الحميدة التى يمكن استنفارها واستغلالها. وأدركت أيضا أن حسن العسال قد تأثر بمعاملتى الإنسانية وتصرفى الأبوى مع ابنته.. وربما كان صادقا فى أن يرد لىّ الجميل. وقررت أخذ مبدأ المخاطرة، وأخليت سبيله، خاصة أنه لم تكن لدى أدلة ضده، أو اتهام محدد يمكن أن أوجهه إليه». فى مساء اليوم التالى، كان العقيد عبدالنبى يجلس بمكتبه بمديرية أمن القاهرة، وصورة اللوحة المسروقة معلقة خلفه، حين دخل المكتب حسن العسال وأغلق الباب، وطلب من العقيد عدم السماح بدخول أحد لأنه يريد محادثته على انفراد. ثم بادره قائلا: محمد بيه، اللوحة اللى فى الصورة اللى وراك دى، أنا اللى سرقتها..! اعترف حسن العسال بأنه كُلف بسرقة اللوحة من أحد المرشدين السياحيين من نزلة السمان بالهرم ويدعى (ص. ج. س)، وحصل منه على ألف جنيه، ولم يكن يعلم بأهمية اللوحة أو قيمتها. وتم ضبط المرشد السياحى، واعترف تفصيليا بتخطيطه لسرقة اللوحة واشتراكه فى ذلك. وتهريبها إلى الكويت مع شقيقه الذى يعمل مدرسا هناك. نعود عزيزى القارئ إلى اللواء عبدالكريم درويش، الذى استعان به وزير الداخلية لما له من صداقات بدولة الكويت.. اتصل درويش بأصدقائه فى الكويت طالباً العون ودياً، وبالفعل سافر العقيد محمد عبدالنبى مع العميد مدحت طلعت إلى الكويت، وتوجها إلى المدرسة التى يعمل بها شقيق المتهم فى سرقة اللوحة (ص.ج.س)، ولكنه ادعى عدم معرفته شيئا عنها، وعاد الضابطان دون استعادة اللوحة. اتصل وزير الداخلية بعبدالكريم درويش مرة أخرى وطلب منه الاستمرار فى محاولة استرداد اللوحة. يحكى درويش: «رحبت بالقيام بهذه المهمة. وعرفت أن المتهمين لهما شقيق ثالث يعمل بالأكاديمية، التقيت به، وأطلعته على تفاصيل الواقعة، وأقنعته أن استرداد اللوحة عمل وطنى فى قضية قبل أى اعتبار آخر، وأننى فى مقابل ذلك على استعداد لأن أعتبر الموضوع منتهيا دون الدخول فى إجراء رسمى. فتعهد أن يبذل كل ما فى وسعه للتعاون معى، وأنه سوف يقنع أخاه بما توصلنا إليه، ويحمله على التعاون وتسليم اللوحة». واستطاع درويش إقناع وزارة الداخلية باسترداد اللوحة مقابل التغاضى عن تحرير محضر للمتهم: «فماذا تستفيد مصر من أن يحكم على هذا المتهم بشهر أو حتى سنة حبس، وتظل اللوحة مختفية». واقتنع نبوى إسماعيل وزير الداخلية بوجهة نظره. يكمل درويش فى مذكراته: «لم يكن أمر إقناع المتهم سهلا، وكان شرطه الوحيد أن تسلم اللوحة لى شخصيا، وليس لأى مسئول آخر بجهاز الأمن، وأصر أن يأتى باللوحة إلى منزلى بالمهندسين». ونجحت الخطة، ووصل (ص. ج. س) إلى منزل اللواء عبدالكريم درويش يحمل اللوحة ملفوفة فى بطانية. عندما فتح اللواء البطانية ونظر إلى اللوحة لم ينبهر، لأن علاقته بالفن ليست بالكبيرة، ولكن لفت نظره أن اسم «فان جوخ» ليس موقعا عليها، مما أثار ريبته، ولكن هذه الريبة ذهبت بعد أن أوضحت له زوجته أن فان جوخ يوقع أعماله الفنية باسمه الأول «فينسنت»، والذى وجده بالفعل أسفل الركن الأيسر للوحة. فاطمأن، والتقط صورة فوتوغرافية للوحة مع أسرته للتأكيد بأن التسليم كان فى منزله بالمهندسين. وتم تشكيل لجنة فنية لفحص اللوحة، بعضوية: أحمد راضى مدير قسم الترميم، والفنان صلاح طاهر، والفنان حسين بيكار. وانتهوا إلى أنهم أمام اللوحة الأصلية، وفى اليوم التالى نشر خبر مقتضب عن استعادة لوحة «زهرة الخشخاش»، بعد العثور عليها بمنطقة المهندسين.! ويبقى فى مذكرات اللواء عبدالكريم درويش فقرة نراها غاية فى الأهمية، علنا نقرأ ما بين سطورها، يقول: «دقّت الأجراس لمدى الإهمال والمخاطر التى يتعرض لها التراث الفنى العالمى الذى تقتنيه مصر فى متاحفها، كما نبهت هذه الحادثة إلى قيمة الثروة الفنية التى نمتلكها من لوحات لمشاهير الفنانين العالميين، ومسئولية الحفاظ عليها من التلف أو الضياع أو التهريب. فلوحة زهرة الخشخاش مقدرة عالميا بمبلغ 50 مليون دولار، لقد بادرت وزارة الثقافة إلى نقل مقتنيات متحف محمد محمود خليل من الزمالك إلى مقره الحالى بالجيزة، فى عرض فنى رائع، وحراسة أمنية مشددة وبوسائل تأمين إلكترونية وعصرية وإضاءة حديثة».