كشفت الأزمة الراهنة بين حزب الله والدولة المصرية عن خلل فى محاولات التوازن بين نموذجين مختلفين، هما نموذجا الدولة القومية والأمة. وبمتابعة الخطاب الإعلامى الرسمى لكل من الطرفين، نجد بروز مفاهيم مثل سيادة الدولة، نصرة الشعب الفلسطينى، والالتزامات تجاه الأمة العربية والإسلامية والتى تعكس صراعا داخليا انعكست أصداؤه لتؤدى إلى الصدام الذى نراه الآن. فعلى جانب الدولة المصرية، نجدها تؤكد نموذج الدولة القومية وسيادتها، وعدم أحقية أى كيان أجنبى التدخل فى شئونها الداخلية مهما كانت تبريراته. وبالتالى يكون تكوين حزب الله لخلية داخل مصر، حتى وإن كان الهدف منها دعم المقاومة الفلسطينية، انتهاكا صارخا للسيادة المصرية وتعدى على مصالحها. ومع ذلك، فهناك تأكيد شديد على دور وجهد الدولة المصرية فى مناصرة الشعب الفلسطينى، ورفضها القاطع أى مزايدات على التزاماتها تجاه الأمة العربية والإسلامية. وعلى جانب حزب الله اللبنانى، هناك إصرار على أولوية مناهضة المشروع الصهيونى فى المنطقة وحماية الأمة العربية والإسلامية من مخاطره، من خلال تقديم كل الدعم للمقاومة الفلسطينية باعتبارها فى جبهة مفتوحة مع العدو. فى نفس الوقت، يؤكد حزب الله على لبنانيته، باعتباره حزبا داخل الدولة اللبنانية، مؤكدا أنه لن يقوم بأى عمليات من شأنها زعزعة أمن واستقرار الدولة اللبنانية حتى وإن كانت تصب فى مصلحة الأمة، مطالبا بعدم تحميل الحزب ما لا يستطيع. ودون الخوض فى تفاصيل ما نجح فى تحقيقه كلا الجانبين من خلال الموازنة بين مصالح الدولة القومية ومتطلبات الأمة، يمكن تحليل المعادلات المختلفة التى قدمها كلاهما وبيان مدى تماسكها. حيث نجد أن حزب الله قدم معادلة متماسكة مفادها عدم التناقض بين الاثنين، مؤكدا أن المصالح القومية اللبنانية مرتبطة ارتباطا أصيلا بمتطلبات الأمة باعتبارها جزءا لا يتجزأ منها. ورغم صعوبة الحفاظ على هذا التماسك فى وجه صدمات قوية كان من شأنها الإخلال بتوازن معادلاته، ومع ما أثارته عملية خطف الجنديين الإسرائيليين فى 2006، والتى أفضت لحرب شرسة تحملت لبنان تبعاتها من تساؤلات عن مدى ارتباط مصالح الدولة اللبنانية بمتطلبات الأمة، واتهام حزب الله وقتها بإعلاء الحزب أولوياته تجاه الأمة على حساب الدولة اللبنانية. عزز حزب الله من تماسك معادلته بتجنب حرب أهلية وشيكة، وإعادة جميع الأسرى اللبنانيين ورفات شهدائها. وجاءت الأزمة الثانية ممثلة فى حرب غزة 2008 لتضع معادلة حزب الله تحت اختبار قاصٍ فى الربط بين متطلبات الأمة ومشروع الدولة القومية، وبدأت تظهر على السطح بوادر الاحتكاك، حاول حزب الله تفاديها من خلال إعادة التأكيد على الارتباط الجذرى بين مصالح لبنان ومحيطها الإقليمى. أما القيادة المصرية فتتبنى معادلة مختلفة تقوم على الازدواجية بين المصالح الوطنية والمتطلبات الأممية، على اعتبار أنه يجب أن تكون هناك موازنة شرطية بين الاثنين، بمعنى أنه لا يمكن تحقيق أحدهما على حساب الآخر، وبالتالى يجب التريث قبل اتخاذ أى قرار يتعلق بالتزامات مصر العربية. وقد تبلورت هذه المعادلة منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد. حيث رفعت القيادة المصرية شعار «مصر أولا» فى تأكيد على أولوية مصالح الدولة القومية ومركزياتها بل وسموها على ما عداها من مصالح، وتأكيدا على سلوكها نهجا مختلفا عن سابق عهدها. كما أكدت القيادة المصرية أن تعريف المصالح الوطنية يمكن، بل ويفضّل، أن يتم بمنأى عن متطلبات الأمة التى قد تفرض قيودا على الدولة القومية وسيادتها، وذلك مع عدم التفريط فى الهوية العربية ومبادئها. وتعرضت المعادلة المصرية القائمة على هذه العلاقة الشرطية بين مصالحها الوطنية والمتطلبات الأممية هى الأخرى لانتقادات شديدة فى الآونة الأخيرة. دارت حول تعاطيها مع حرب غزة وعلاقتها بحركات المقاومة، وموقفها من الصراعات العربية العربية ودورها فى الحوار الفلسطينى الداخلى. بحيث بدت المعادلة المصرية مفتقدة لحد كبير لاتزانها. وظهرت دون المستوى المطلوب. فعلى الرغم من تأكيد الدولة المصرية أن معادلتها تهدف إلى تحقق توازن مشروط بين التزاماتها تجاه الأمة العربية ومصالحها الوطنية، فإن إخلالا واضحا بالتزاماتها العربية فرض قيودا ثقيلة على صانع القرار لتحقيق المصالح الوطنية المصرية وتسبب فى تآكل الدور المصرى الإقليمى والدولى. ولكن يبقى السؤال الأكثر إلحاحا عن مدى أحقية فرض حزب الله لمعادلته التى تؤكد عدم التناقض بين المصالح الوطنية ومتطلبات الأمة، على الدولة المصرية والتى من حقها تبنى رؤية مغايرة نابعة من قراءتها وتحليلها لمواقفها وأولوياتها. هل يمكن الجزم بأن حزب الله قد أخطأ لفرضه معادلاته دون النظر إلى تبعاتها على الدولة المصرية؟ إذا كان حزب الله قد أخطأ فى التأكيد على التزاماته تجاه القضية الفلسطينية، لتحقيق توازن مطلوب بين متطلبات الأمة وسياسات الحزب، على حساب الدولة المصرية بما يخل بمعادلتها ورؤيتها القائمة على مركزية دور الدولة القومية وسمو مصالحها، فإن الدولة المصرية قد أخطأت مرتين: أولا، فى عدم وضوح عرضها لمعادلة متماسكة قادرة على تحقيق مصالحها القومية دون الإخلال بالتزاماتها العربية التى ارتضت القيام بها وأكدت أهميتها. وأخطأت الدولة المصرية مرة أخرى فى تعاملها مع «خطأ» حزب الله، فبدلا من أن تبحث عن تسوية سياسية للأزمة تحفظ بها سيادتها، والتى لها كل الحق فى التأكيد عليها، وتعيد لها التوازن الضرورى بين مصالحها الوطنية والتزاماتها العربية، وضعت نفسها فى مواجهة مع طرف فعّال ومؤثر فى المنطقة إلى حد تهديده ووصف عملياته بالإرهابية، دون الالتفات لتبعات ذلك على دورها فى ملفات غاية فى الأهمية للأمن القومى المصرى فى كل من فلسطين ولبنان. بل وكان لزاما على مصر، والدول العربية دون استثناء، توجيه جميع الإمكانات لرفع المعاناة عن الشعب الفلسطينى بقطاع غزة، لأن الظروف المعيشية التى مازالوا يعانونها، وعلى وجه الخصوص منذ ثلاث أشهر، بانتهاء الهجمة البربرية، لا يمكن أن يستمروا عليها؛ إرضاء للضغوط الدولية المصممة على فرض شروطها على الجانب الفلسطينى فقط. فمن واجب العرب جميعا، وليس مصر فقط، وضع الآليات العاجلة لإدخال معدات إعادة الإعمار والبدء فى دفع عجلته لأن هذا واجب إنسانى وطنى قومى إسلامى لا يمكن إغفاله.