كثيرون سمعوا وقرأوا عن الشيخ عبدالباسط عبدالصمد وأبوالعينين شعيشع ومحمود على البنا وربما أيضا عن آخرين أقل شهرة مثل الشيخ إبراهيم الشعشاعى أو عبدالحميد الباسوسى وغيرهم من أساطين دولة التلاوة. لكن قليلين جدا من يعرفون أن كل هؤلاء وغيرهم من قراء وحفظة القرآن كانوا أعضاء فى نقابة مهنية باسم «نقابة قراء ومحفظى القرآن الكريم»، المنشأة بالقانون رقم 93 لسنة 1983، تماما مثلما هو الحال مع الأطباء والمحامين والصحفيين وغيرهم من المهنيين. فخطرت فكرة النقابة لأول مرة فى أذهان مؤسسيها الأوائل ومن بينهم الشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ عبدالباسط عبدالصمد ومحمود على البنا، فى أواسط السبعينيات تقريبا، بينما كانوا يبحثون كيفية مساعدة زميل «قارئ» مريض لم يستطع توفير ثمن «حقنة» كتبها له الطبيب. ومرت قصة إنشاء النقابة التى نعرضها هنا على حلقات ربما للمرة الأولى فى الصحافة العربية، بتفاصيل مثيرة، إلا أن بداية القصة الحقيقية والتى تستحق أن نلقى عليها نظرة سريعة أولا، تعود بجذورها إلى ما قبل ذلك بمئات وربما آلاف السنين، حيث مر المؤرخ الرحالة الإغريقى فى مصر القديمة وقال عن المصريين إنهم «أكثر الشعوب تدينا»، فى إشارة إلى قوة وعمق علاقة المصريين بالدين وتشابكه فى جميع تفصيلات حياتهم. ظلت هذه العبارة ملمحا رئيسيا فى علاقة المصريين بالدين عموما حتى بعد اعتناق المصريين للإسلام مصر وإلى وقتنا هذا، وهو ما يبدو واضحا مثلا فى العلاقة الخاصة بين المصريين والقرآن الكريم. لم تقتصر علاقة المصريين بالقرآن خلافا لما قد يتصور البعض على الشعائر والمناسبات الدينية كالصلاة وشهر رمضان، وإنما امتدت إلى عدد لا حصر له من المناسبات المرتبطة بشئون حياتهم اليومية؛ وأحزانهم وأفراحهم، وتطلعهم للمستقبل وسعيهم للتغلب على الظلم ومشاق الحياة. فبخلاف المناسبات المرتبطة بالحزن والحداد التى يحل فيها القرآن ضيفا محببا على قلوب المصريين التى جرحها الفراق، حرص المصريون ولا يزالون على التبرك بالقرآن فى عديد من المناسبات المرتبطة ب«الفرح»؛ بداية من الزواج، مرورا بالاحتفال بالمواليد الجدد فيما يعرف باسم «العقيقة» وغير ذلك. وحتى وقت ليس بالبعيد قبل انتشار «الراديو» و«الكاسيت» كانت كثير من البيوت فى الريف والمدن تستعين ب«قارئ» أو «قارئة» لقراءة القرآن فى ميعاد محدد من كل يوم أو أسبوع على الأقل. أما فى الكتاتيب، التى كانت المكان الرئيسى للتعليم، فكان القرآن هو المادة الرئيسية التى شكلت عقل ووجدان أجيال كثيرة من المصريين. وبالتوازى مع حب وتقديس المصريين للقرآن، ظهر احتفاء الدولة المصرية به أيضا، فى إطار حرصها على التأكيد على علاقتها بالدين عموما، فشهدت الحقبة الناصرية إنشاء «الإدارة العامة لشئون القرآن» بوزارة الأوقاف عام 1964، بالإضافة إلى بداية تخصيص ميزانية مستقلة لإيفاد قراء القرآن الكريم إلى خارج مصر لقراءة القرآن. وكل هذه العوامل السابقة، وغيرها كانت حاضرة فى ذهن الرئيس «المؤمن» محمد أنور السادات عندما رحب بالمشايخ الذين لجئوا له فى استراحته بالقناطر يشكون له بطء إجراءات تأسيس نقابتهم، واتصل برئيس مجلس الشعب وقتها المرحوم الدكتور صوفى أبو طالب، وقال له بنبرة ذات مغزى: «يوم الأحد يعرض مشروع قانون نقابة القراء على مجلس الشعب، وأنا عضو فى النقابة». كما كانت هذه العوامل حاضرة أيضا عندما قال أحد أعضاء مجلس الشعب خلال جلسات مناقشة مشروع القانون: «إنها لخطوة ميمونة مباركة أن يعرض على المجلس الموقر اقتراح بمشروع قانون لإنشاء نقابة لقراء القرآن الكريم».. وغدا نكمل.