تُعد العاصمة الجديدة من أهم المشروعات القومية فى مصر خلال القرن الحادى والعشرين، فهى مدينة ذكية تعتمد على أدوات الإدارة الذكية والتحول الرقمى، وتجمع بين الوظائف الحكومية والاقتصادية والسكنية المرتبطة ببنية تحتية ذكية. وقد شهدت دول العالم فى العقود الماضية إنشاء العديد من العواصم، سواء كان ذلك لدول مستقلة حديثًا تسعى إلى التأكيد على سيادتها واستقلالها الذاتى، أو لقيام دول باستبدال العاصمة الجديدة بالعاصمة القديمة من أجل تحسين كفاءة الحكومة، وتحديث جهازها الإدارى، أو لجعل موقع العاصمة أكثر حيادية من الناحية الإقليمية، والرغبة فى وجود عاصمة تمثل المجموعات العرقية الرئيسية، والتنوع الثقافى واللغوى (نيجيريا)، أو لتجنب التعرض للهجمات عن طريق البحر (البرازيل)، أو لصغر المساحة والرغبة فى تجنب الازدحام الشديد والاختناقات المرورية فى العاصمة القديمة (كوالالمبور فى ماليزيا)، أو لتعرض العاصمة القديمة للزلازل وقربها من حدود دولة معرضة لاضطرابات سياسية فى دول مستقلة حديثًا (كازاخستان)، بما يشكل تهديدًا وشيكًا للدولة. إذا كانت الدول التى لديها عاصمة واحدة هى الأكثر شيوعًا إلى حد كبير، فإن هناك حالات معينة يكون فيها للدولة نفسها عاصمتان أو أكثر. ففى هولندا، تُعد أمستردام هى العاصمة، ويؤدى الملك اليمين فيها، بينما يقع مقر الحكومة فى لاهاى، التى يوجد بها أيضًا محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، وأكثر من 100 منظمة دولية. وفى جمهورية صربسكا (البوسنة والهرسك)، ينص الدستور على أن سراييفو هى عاصمة الجمهورية، بينما يقع مقر الحكومة فى بانيا لوكا. وفى ألمانيا، تتوزع المؤسسات الحكومية والوزارات بين برلين العاصمة الرسمية وبون (العاصمة السابقة لألمانيا الغربية). وعلى الرغم من أن عاصمة الاتحاد الروسى هى مدينة موسكو، فإن المحكمة الدستورية توجد فى سانت بطرسبرج. وقد تشترك أكثر من مدينة مع العاصمة فى استضافة مؤسسات حكومية مهمة أخرى، ففى سويسرا، على الرغم من أن عاصمتها برن، إلا أن المعهد الاتحادى السويسرى للتكنولوجيا، والعديد من المؤسسات الإعلامية المؤثرة، وكذلك النقابات القوية، توجد فى زيوريخ، كما توجد المحكمة العليا الاتحادية فى لوزان. • • • فيما يتعلق بإدارة العاصمة، فإن معظم الدول لا تعطى للعاصمة وضعًا إداريًا أو قانونيًا خاصًا؛ حيث تُعاملها معاملة المدن العادية؛ لأنها لا ترى أسبابًا لذلك، مثل دول الشمال الأوروبى ودول البلطيق، والعديد من دول وسط وشرق أوروبا. وهناك دول أخرى تعطيها وضعًا خاصًا لما يميزها عن المدن الأخرى، من حيث كونها تمثل الدولة، وتُعد مقرًا للحكومة المركزية، وللمؤسسات الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية الرئيسة، ولمكانتها المتميزة، فضلًا عن أنها أكثر عرضة للاحتجاجات والتوترات السياسية نتيجة قربها من الحكومة الوطنية. وتتباين الدول من حيث طبيعة هذا الوضع الخاص لعواصمها؛ فقد يتمثل ذلك فى وضع قانون منفصل لها (فنزويلا، والأرجنتين، والولايات المتحدة الأمريكية، والبرازيل، وبولندا، وروسيا، وسلوفاكيا، وإسبانيا، وأوكرانيا)، أو تخصيص فصل خاص بها فى قانون الحكم المحلى (المجر)، أو عدم وجود حكومة موحدة لها (يتم الاكتفاء بالإدارة على المستوى الأدنى، مثل مدينة لندن فى المملكة المتحدة فى الفترة من 1986 إلى 2000)، أو جعل العاصمة تابعة للحكومة المركزية لتمييزها بذلك عن المدن الأخرى (تُعد جاكرتا عاصمة إندونيسيا محافظة وتتبع الحكومة المركزية مباشرة). وقد تباشر العواصم مسئوليات كل من المستويين الإقليمى والمحلى (كما هو الحال فى دول التشيك، وكرواتيا، ولاتفيا، والنرويج، وأوكرانيا، وبلجيكا، وبيرو، ورومانيا). كما قد تجمع العاصمة بين كونها بلدية من ناحية وولاية فيدرالية فى الوقت نفسه (مثل إقليم كانبرا فى أستراليا). وإلى جانب ما سبق، قد يتم تمييز العاصمة ماليًا بتعويضها عن المصروفات المتعلقة بوضعها كعاصمة (تبليسى فى جورجيا)، أو قد تحصل العاصمة على ضمانات للاستثمارات التى تقوم بها، أو تقوم الحكومة المركزية بتقديم خدمات معينة بشكل مباشر وتتحمل التكاليف (على سبيل المثال أوتاوا فى كندا). وعلى الرغم من أن العاصمة الجديدة لمصر تقع ضمن النطاق الجغرافى لمحافظة القاهرة، إلا أنها لا تتبعها إداريًا. ومن هنا، تأتى أهمية تحديد هويتها الإدارية، خاصة أن الدستور ينص على أن مدينة القاهرة هى العاصمة (وفقًا للمادة 222 من الدستور). • • • لما كانت العاصمة الجديدة تختلف عن المدن التقليدية؛ لأنها مدينة ذكية (Smart City)، ومركز حكومى وإدارى، ومدينة استثمارية وتجارية، وذات بنية تحتية رقمية متقدمة، فإن ذلك يتطلب أن يكون لها وضع إدارى خاص يُراعى ما نص عليه الدستور، ويتلافى البيروقراطية التقليدية، وذلك على الوجه الآتى: أولًا: تحديد النمط الإدارى الذى من خلاله تتم إدارة العاصمة الجديدة، على أن يكون ذلك تحت منظومة الإدارة المحلية، تطبيقًا لدستور 2014 وللقانون رقم 43 لسنة 1979، اللذين نصّا على تقسيم الدولة إلى وحدات إدارية مستقلة، وتديرها مجالس محلية منتخبة من المواطنين. ويمكن هنا اقتراح تحويل العاصمة الإدارية إلى مدينة ذات طبيعة خاصة فى نطاق محافظة القاهرة، وذلك بقرار من رئيس الجمهورية باسم «مدينة القاهرة»، على أن تكون هى عاصمة جمهورية مصر العربية، اتساقًا مع الدستور، وعاصمة لمحافظة القاهرة فى الوقت نفسه، مع إعادة النظر فى التقسيم الإدارى الحالى لمحافظة القاهرة، بحيث تشمل إلى جانب العاصمة تحويل المناطق الأربع الحالية (التى ليست وحدات إدارة محلية حاليًا) إلى مدن: مدينة غرب القاهرة، ومدينة شرق القاهرة، ومدينة شمال القاهرة، ومدينة جنوبالقاهرة، على أن تنقسم كل مدينة إلى أحياء. ثانيًا: أن تكون لرئيس المدينة سلطات المحافظ، وأن تكون سلطاته واضحة فى مجالات التخطيط العمرانى، وإدارة البنية التحتية الذكية، وجذب الاستثمارات، والتنسيق مع الوزارات، وإدارة الأراضى والمرافق، والإشراف على المشروعات الحكومية الكبرى. ثالثًا: أن يكون للمدينة مجلس محلى منتخب، يُمثل المواطنين ويتفاعل معهم، ويُعزز المشاركة المجتمعية فى صنع السياسات واللوائح والقرارات المحلية، ويمارس الرقابة على الأداء. رابعًا: أن تتمتع المدينة باستقلالية مالية، من خلال تمكينها من الحصول على نسبة من عوائد الأراضى والأنشطة الاقتصادية، ورسوم الخدمات الذكية، والاستثمار العقارى، وغير ذلك من مصادر التمويل. خامسًا: إذا كانت العاصمة الجديدة فى مصر تمثل نموذجًا ناشئًا لتطبيق مبادئ الحوكمة الذكية، وتركز على تطوير خدمات حكومية إلكترونية تقلل من الاعتماد على المعاملات الورقية، والنقل الذكى، والإنارة الذكية، وإدارة الموارد البيئية بكفاءة، فإن ذلك يستلزم استمرار العمل على ضمان الوصول العادل والمتساوى إلى التكنولوجيا، ودمج فئات المجتمع المتنوعة فى المجال الرقمى، وتطوير رأس المال البشرى، وتعزيز ثقافة الابتكار، وتوفير بيئة تشريعية قوية تعزز ثقة المواطنين والمستثمرين، وتعزز الأمن السيبرانى، وتحمى الخصوصية، مع التركيز على إشراك المواطنين فى صنع القرار من خلال منصات إلكترونية تتيح لهم متابعة أداء الحكومة والإبلاغ عن الفساد، وتمكنهم من الوصول إلى المعلومات. إن هذا المقترح يتميز بتلافى مشكلة تعديل الدستور فى حالة اختيار اسم جديد للعاصمة، وفى الوقت نفسه الإبقاء على العاصمة الجديدة ضمن محافظة القاهرة، فضلًا عن حل مشكلة تسمية العاصمة الجديدة. أستاذ الإدارة العامة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة الاقتباس: لما كانت العاصمة الجديدة تختلف عن المدن التقليدية؛ لأنها مدينة ذكية، ومركز حكومى وإدارى، ومدينة استثمارية وتجارية، وذات بنية تحتية رقمية متقدمة، فإن ذلك يتطلب أن يكون لها وضع إدارى خاص يُراعى ما نص عليه الدستور، ويتلافى البيروقراطية التقليدية.