تبدت مفارقات لافتة فى هجوم «سيدنى»، الذى أفضى إلى مقتل (16) يهوديا وإصابة آخرين على شاطئ «بوندى» أثناء احتفالهم بعيد الأنوار «حانوكا». خضع الهجوم، كما هو معتاد ومتوقع، لتوظيف سياسى ودعائى واسع ومكثف استهدف تأكيد السردية الإسرائيلية للحرب على غزة، وتحميل الحكومات الغربية، التى اعترفت بالدولة الفلسطينية أثناء الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، مسئولية تفشى العداء للسامية. إنها ذريعة العداء للسامية مجددا ودائما لترهيب أية معارضة للسياسات الإسرائيلية. لم يفلت رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو» الفرصة السانحة لشن حملة على رئيس الوزراء الأسترالى «أنتونى ألبانيز» تتهمه بالتسبب فى الحادث والتشجيع عليه. لم تكن تلك رسالة إلى أستراليا وحدها، بل إلى الحكومات الغربية جميعها، التى اعترفت، أو بسبيلها أن تعترف، بحق الفلسطينيين فى تقرير المصير وبناء دولة على الأراضى المحتلة منذ (5) يونيو (1967). كان ذلك توظيفا سياسيا واضحا ومباشرا لهجوم سيدنى. لا يوجد عاقل واحد ينظر لذلك الهجوم على أنه نوع من الدعم للقضية الفلسطينية؛ الحقيقة أنه يضرها فى صميم شرعيتها الأخلاقية والقانونية الدولية، كقضية تحرر وطنى أولا وأخيرا. أى خلط أوراق بين الحق فى المقاومة، الذى تشرعه القوانين الدولية لمواجهة الاحتلالات الأجنبية، وبين الإرهاب كعمل عنيف ضد المدنيين العزل، يضر بعدالة القضية وصدقيتها واحترامها. باستدعاء تهمة العداء للسامية، أراد هذه المرة تقويض الأساس الأخلاقى لموجات التعاطف والتضامن الشعبى الواسع فى العواصم الأوروبية والغربية، لا التنديد بالإرهاب أيا كان مصدره. دأب «نتنياهو» على استخدام سلاح «العداء للسامية» ضد كل من يدافع عن القضية الفلسطينية فى مواجهة حربى الإبادة والتجويع فى غزة، رغم أن العرب والمسلمين لم يكونوا طرفا، أو شريكا، فى هذا الجزء المظلم من التاريخ، الذى جرت فيه حروب تطهير عرقى ومحارق الهولوكوست. بتعبير صحيفة «تايمز أوف إسرائيل»، فإن هجوم «سيدنى» يأتى فى ظل تصاعد الحوادث المعادية لإسرائيل فى أستراليا. كان ذلك تهربا من الحقيقة، التى يعرفها العالم كله، وأفضى إلى تقويض صورة إسرائيل حتى أصبحت دولة منبوذة. بدت مظاهر الاحتجاج والغضب بمئات الآلاف من المتظاهرين، التى شهدتها «سيدنى»، تعبيرا إنسانيا وسياسيا عن مستوى الإدراك المستجد لعدالة القضية الفلسطينية. خسرت إسرائيل تماما حرب الصور. لم يعد أحد فى العالم مستعدا أن يخدع نفسه بدعاياتها، أو يترهبه بغير حق اتهامات «العداء للسامية». فى اللحظات الأولى لهجوم «سيدنى» بدت فرصة لإكساب السردية الإسرائيلية عن أحداث السابع من أكتوبر (2023) شيئا من الإقناع والتفهم فى المجتمعات الغربية، لكن أفسدها تماما رجل أربعينى، عربى مسلم، اسمه «أحمد الأحمد»، يعمل بائعا للفاكهة والخضراوات، هاجر من سوريا عام (2007) فى ذروة الحرب الأهلية للعمل فى أستراليا. بالمصادفة، كان متواجدا بالمكان لحظة الهجوم الإرهابى. بدواعى الشهامة، تدخل للإمساك بأحد منفذيه من الخلف، اشتبك معه ونزع بندقيته من يده. لولا هذا التدخل، لضاعفت أعداد القتلى والمصابين. قبل أن تنجلى الحقائق، أخذ «نتنياهو» يشيد ب«اليهودى الشجاع»، الذى تصدى للهجوم بلا سلاح، وأسبغ عليه كل الصفات الإيجابية، لكنه بوغت بعد قليل بأنه «سورى عربى ومسلم». هكذا تقوضت الرواية كلها من جذورها. مال الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» إلى إضفاء الصفات نفسها على «الأحمد» دون التوقف عند أصله ودينه. بصورة أو بأخرى، بدت السردية الفلسطينية أكثر تماسُكا وإقناعا إثر تبين ما حدث على شاطئ بوندى. كان أسوأ ما جرى فى القصة كلها نهوض عدد من رجال الأعمال اليهود بجمع تبرعات بقيمة (1.3) مليون دولار ل«الأحمد» تكريما لدوره. لم تكن دوافعه سياسية، بل إنسانية تماما. هذه مسائل لا تُباع ولا تُشترى.«الأحمد» الوجه الآخر ل«ساجد أكرم»، المسلم الهندى، الذى ينتمى إلى «داعش»، وتولى بمشاركة ابنه تنفيذ الهجوم. يستدعى الكلام عن القضية الفلسطينية وعدالتها كلاما آخر عن عدم الإفلات من العقاب. هذه رسالة مضمرة فى حادث هجوم «سيدنى» والتوظيف السياسى الذى صاحبه. لا يمكن بأى ضمير إنسانى، أو اعتبار قانونى دولى، إعفاء إسرائيل من العقاب بوقف محاسبتها أمام محكمتى «العدل الدولية» و«الجنائية الدولية». بالتزامن مع هجوم «سيدنى»، جرى هجوم «داعشى» آخر على قوات أمريكية تتمركز فى تدمر، نال من حياة جنديين ومترجم. المعنى أن «داعش» ما زالت موجودة ومتمركزة وتستثمر فى جرائم الحرب التى تُرتكب فى المشرق العربى لاكتساب قوة مضافة. هذه حقيقة لا يمكن نفيها. «لدينا سلام حقيقى عظيم فى الشرق الأوسط». كان ذلك استنتاجا بلا أساس أطلقه «ترامب». الوقائع وحدها ترد وتفحم. ما زالت غزة تتعرض للتجويع والتقتيل رغم خطة «ترامب» أو بسببها. ما يحدث فى الضفة الغربية من إعادة هندسة سكانية وموجات نزوح، ينفى أى نوع من السلام إلا أن يكون «سلام القوة». أى توظيف سياسى يفشل تماما إذا ناقضته الوقائع على الأرض. هذا ما حدث بالضبط إثر هجوم «سيدنى».