لا يزال التنافس محتدمًا بين عمالقة الشركات الأمريكية فى تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعى، سواء على صعيد استقطاب أفضل الكفاءات البشرية، أو من خلال ضخ استثمارات وميزانيات غير مسبوقة بوتيرة لم يشهدها العالم من قبل. ويكفى أن نعلم أنه فى عام 2025 فقط أنفقت شركة ألفابيت (جوجل) 90 مليار دولار، الجزء الأكبر موجّه لإنشاء مراكز البيانات، وشرائح (TPUs -Tensor Processing Unit)، وتطوير نماذج الذكاء الاصطناعى التوليدية مثل Gemini. أما شركة مايكروسوفت فقد أعلنت أن استثماراتها فى البنية التحتية الداعمة للذكاء الاصطناعى خلال نفس الفترة فى حدود نحو 80 مليار دولار تنفق على مراكز بيانات خدماتها السحابية وتشغيل وتدريب نماذج الذكاء الاصطناعى الضخمة. أما شركة ميتا فتراوح إنفاقها فى حدود 70 مليار دولار. ناهيك عما تم ويتم إنفاقه فعلًا فى المشروع الأكبر للذكاء الاصطناعى (ستارجيت) الذى أعلنه الرئيس الأمريكى شخصيًا يوم 21 يناير 2025 فى حضور رؤساء شركات «أوراكل»، و«أوبن إيه أى»، و«سوفت بنك»، والذى قدرت استثماراته بحوالى نصف تريليون دولار على مدى أربع سنوات، فإذا أضفنا إلى ما سبق ما أنفقته الشركات الأخرى يمكن القول إن حجم الاستثمارات فى هذه التقنية عام 2025 تعدت قيمة النصف تريليون دولار، والأهم من ذلك أن هذا الرقم مرشح للزيادة بنسبة تتراوح بين 20 و30% فى العام المقبل. عند مقارنة حجم هذه الاستثمارات الضخمة بالقيمة الفعلية -غير المتناسبة- للمنتجات المطروحة حاليًا، قد يبرز إلى الأذهان مفهوم ما يُعرف بفقاعة الذكاء الاصطناعى أو (AI Bubble)، وهو توصيف اقتصادى يُستخدم للإشارة إلى وضع تتجاوز فيه توقعات المستثمرين وتقييمات شركات التكنولوجيا العوائد الحقيقية والقيمة الاقتصادية الفعلية التى يحققها الذكاء الاصطناعى فى الوقت الراهن. ويستند هذا الطرح، الذى يتبناه بعض المحللين، إلى مجموعة من المرتكزات الأساسية التى تُغذى فرضية وجود فقاعة محتملة فى هذا المجال مثل: فجوة «الإنفاق مقابل العوائد»، حيث تضخ شركات التكنولوجيا الكبرى مئات المليارات من الدولارات فى البنية التحتية ومراكز البيانات وغيرها فى الوقت الذى يرى فيه المتشككون أن هذه الشركات لم تجد بعد التطبيق الذى يحول هذا الاستثمار إلى أرباح ضخمة تغطى التكاليف العالية. ثم هناك تكلفة التشغيل الباهظة، فالذكاء الاصطناعى التوليدى مكلف للغاية، ويتطلب طاقة حوسبية هائلة وإذا لم تنخفض هذه التكلفة بشكل كبير، فقد تظل النماذج الحالية غير مربحة على المدى الطويل. وأخيرًا يوجد الخوف من أننا قد نصل إلى سقف محدد فى قدرات النماذج اللغوية الكبيرة، فزيادة البيانات وقوة الحوسبة قد لا تؤدى بالضرورة إلى قفزات نوعية فى الذكاء كما حدث فى بدايات هذه الفترة. • • • إذن هناك مؤشرات تدل على احتمال ظهور ما قد نطلق عليه «فقاعة الذكاء الاصطناعى». ساعد على انتشار هذا المصطلح، وزاد من مخاوف المستثمرين ما يتم تداوله حاليًا من قبل قادة الشركات الكبيرة التى تعمل فى هذا المجال. فقد أدلى سوندار بيتشاى الرئيس التنفيذى لشركة ألفابيت (الشركة الأم لجوجل) فى مقابلة مع محطة «بى بى سى» منتصف شهر نوفمبر 2025 بحديث يفيد بأن فقاعة الذكاء الاصطناعى تلوح فى الأفق، وأضاف، قائلًا: «نحن كشركة نحاول التوفيق بين استمرارنا فى قمة التنافس مع الشركات الكبرى الأخرى، وبين واجبنا بأن نعطى فرصة للعالم أن يلتقط أنفاسه ويستوعب ما يحدث فى هذه التقنية من حيث استخداماتها، وتغييراتها السريعة، وأيضًا سلبياتها خصوصًا تسببها فى فقد الملايين لوظائفهم». لم يتأخر السيد أرفيند كريشنا رئيس شركة «آى بى إم» كثيرًا فأجرى بدوره مقابلة مع المذيع نيلاى باتيل نُشرت فى أول ديسمبر 2025. جادل كريشنا من خلالها فى وجود الفقاعة من الأساس، وصرح بأن الأعمال «تزدهر» فى قطاع الذكاء الاصطناعى الخاص بالشركات الكبيرة، حتى لو كان «الضجيج» يبدو مفرطًا فى بعض الأحيان. ولكن على الجانب الآخر أعرب عن شكوكه بشأن جدوى الإنفاق الهائل من قبل المنافسين فى تكلفة تطوير الذكاء الاصطناعى العام (AGI)، وأشار إلى أن الإنفاق على البنية التحتية يجعل «الحسابات غير منطقية» لتحقيق عائد على الاستثمار وأضاف أن احتمالية الوصول للذكاء الاصطناعى العام باستخدام تكنولوجيا النماذج اللغوية الكبيرة (LLM) الحالية يتراوح بين 0 و1% فقط، طارحًا رهانه على «الاستدلال» لا على «الذكاء العام»، فهو يرى أن القيمة الحقيقية تكمن فى الذكاء الاصطناعى المتخصص وليس فى محاولة بناء «عقل بشرى رقمى» (AGI). فالسيد كريشنا فى الأساس لا يعارض الذكاء الاصطناعى، بالعكس فشركته تراهن عليه بكل قوتها لكنه يعارض «جنون العظمة» فى الإنفاق، ويفضل استراتيجية «النماذج اللغوية الصغيرة» (Small Language Models) التى تؤدى مهام محددة للشركات بتكلفة زهيدة، بدلًا من حرق التريليونات فى محاولة الوصول إلى ذكاء اصطناعى «يفعل كل شىء». وأضاف: «أن المعضلة الحقيقية للذكاء الاصطناعى هى عدم واقعية الحسابات الاقتصادية وراء التوسع الحالى». وفى رأيه أن العالم كله يندفع لبناء مراكز بيانات ضخمة وشراء «كروت معالجة» بمليارات الدولارات، على افتراض أن المزيد من القوة الحسابية يعنى ذكاءً أفضل وعوائد أعلى. لكن الأرقام تقول غير ذلك. الذكاء الاصطناعى ليس فقاعة، لكنه يصبح غير قابل للاستمرار عندما يُستخدم فى كل شىء وبأقصى حجم ممكن. الحل ليس فى النماذج الأكبر، بل فى الاستخدام الأذكى وعلى حد تعبيره: «نماذج أصغر، أكثر تخصصًا، وأقل تكلفة، تحقق قيمة حقيقية. المعركة المقبلة لن تكون حول من يمتلك أكبر خوادم، بل من يفهم أين ومتى ولماذا يستخدم الذكاء الاصطناعى.. وبأى تكلفة». • • • ختامًا، أرى أن المعطيات الحالية لا تدعم فرضية تشكٌّل فقاعة فى مجال الذكاء الاصطناعى، بل تشير إلى مسار تطور مستدام تحكمه احتياجات واقعية ومتنامية، وأميل إلى استبعاد سيناريو الفقاعة لأسباب ثلاثة: السبب الأول أنه فى ظل الارتباط الوثيق بين تطور هذه التقنيات والمتطلبات الاقتصادية التطبيقية الحقيقية فإن الذكاء الاصطناعى لا يبدو ظاهرة مؤقتة أو فقاعة استثمارية، بل يمثل تحولًا هيكليًا عميقًا فى طريقة الإنتاج والمعرفة ويستند إلى استخدامات عملية وقيمة مضافة حقيقية عبر مختلف القطاعات تسير فى اتجاه تحول طويل الأمد. السبب الثانى: هو أن الدلائل التى يتحدث عنها البعض فى مجال هذه التقنية وتتشابه فى بعض عناصرها مع ما حدث عام 2008 فيما أطلق عليه «فقاعة العقارات» عالميًا من ارتفاع غير مبرر فى أسعار العقارات، واعتماد واسع على الاقتراض والمضاربات، والتقييمات الزائفة التى كانت تعتمد على توقعات سعرية فقط وليس على عائد حقيقى. فالعقارات بذاتها هى أصول غير منتجة ولا تخلق قيمة إضافية إلا عند إعادة البيع أو الإيجار، فهى كانت فى الأساس فقاعة قائمة على الديون، أدى انهيارها إلى إفلاس بنوك، وأزمة مالية شاملة، وركود اقتصادى طويل، أدى بدوره إلى انهيار النظام بأكمله. وإذا كان هناك بعض العناصر السابقة قد تنطبق على ما يحدث حاليًا فى عالم الذكاء الاصطناعى، مثل عدم واقعية الحسابات الاقتصادية، وارتفاع هائل فى تقييم شركات الذكاء الاصطناعى، مع ضخ الاستثمارات الضخمة قبل تحقيق أرباح واضحة، وضغوط المنافسة الشرسة التى نتج عنها موجة من التوظيف المفرط، سرعان ما تلتها موجة من الاستغناء والتسريح المفرط. إلا أن كل هذه العوامل السابقة لا ترقى لتكوين «فقاعة» فى هذا المجال على الأقل حتى الآن. أما السبب الثالث والأخير، فيتمثل فى أن تقنية الذكاء الاصطناعى لم تعد مجرد أداة مدنية أو اقتصادية، بل أصبحت بالفعل جزءًا لا يتجزأ من معظم مناحى الحياة البشرية، إلى جانب كونها محورًا لجهود واستثمارات ضخمة لا تقل عما أشرنا إليه فى مطلع هذا المقال، لكن هذه المرة فى المجال العسكرى. هذا السباق تحديدًا هو سباق صامت، لا يعلم أحد حجمه الحقيقى ولا حدوده، ومن غير المتوقع -فى المستقبل القريب أو حتى البعيد- أن نشهد معاهدات دولية فاعلة تمنع انتشار ما يمكن تسميته ب«أسلحة الذكاء الاصطناعى»، على غرار معاهدات الحد من انتشار الأسلحة النووية أو الكيميائية. وحتى لو افترضنا -جدلًا- توقيع مثل هذه الاتفاقيات، فإن غياب آليات رقابة وتنفيذ حقيقية يجعلها شبه مستحيلة التطبيق. بناءً على ذلك، فإن النتيجة المنطقية هى أن الدول الكبرى المستثمرة فى هذا المجال، وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية والصين بوصفهما الأكثر تقدمًا عالميًا فى تقنيات الذكاء الاصطناعى بما فى ذلك الاستخدامات العسكرية لن تمتلك رفاهية التراجع أو التباطؤ فى حال حدوث ما يُسمى ب«فقاعة الذكاء الاصطناعى» فهاتان الدولتان، بخلاف ما حدث عقب فقاعة العقارات عام 2008، لن تتمكنا من تحمل ركود طويل يسمح للأسواق باستيعاب الصدمة ثم إعادة التوازن خلال فترة تمتد لعدة سنوات كما حدث آنذاك. على العكس تمامًا، فإن اعتبارات التفوق الاستراتيجى والأمنى ستمنع أيًّا منهما من إبطاء اندفاعها نحو تطوير هذه التكنولوجيا، خاصة فى المجال العسكرى، حتى فى ظل اضطرابات اقتصادية محتملة. ويبقى السؤال الأهم: متى، وكيف، يمكن أن يتوقف هذا السباق المحموم؟ سؤال مؤجل، وإجابته تنتمى إلى نقاش آخر. وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الأسبق