بعد شهور قليلة من ثورة 25 يناير، وبينما كان شباب الثورة ورموز القوى المدنية منشغلين بالأسئلة الكبرى، أو بالتظاهر فى الميادين «من أجل أى شىء وضد أى شىء»، كانت جماعة الإخوان تُعد العدة لأول انتخابات برلمانية بعد سقوط نظام مبارك. تعهدت الجماعة فى البداية بألا تنافس على أكثر من 30% من مقاعد البرلمان ورفعت شعار «مشاركة لا مغالبة»، لكنها سرعان ما انقلبت على تعهداتها، وقررت خوض المعركة على أغلب المقاعد، بعدما أدركت أن الساحة باتت سانحة للسيطرة على «برلمان الثورة». فى تلك الأجواء، قرر بعض الساسة خوض المعركة الانتخابية ضد مرشحى الجماعة وحلفائهم فى دوائر الحضر بالقاهرة والمحافظات، كما شكلت بعض الأحزاب تحالفات للمنافسة على «القوائم». دمج قانون الدوائر الانتخابية، حينها، دائرة الدقى والعجوزة «الحضرية»، مع دائرة إمبابة «الشعبية الريفية» التى تمدد فيها تاريخيا التيار الإسلامى بكل روافده. كانت تلك الدائرة محط اهتمام وسائل الإعلام، فالمنافسة فيها على أشدها، رجل الإخوان القوى المهندس عمرو دراج، يواجه الشيخ سيد الجيوشى مرشح حزب النور السلفى، فيما مثَّل القوى المدنية فى تلك المعركة الدكتور عمرو الشوبكى، مستشار مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية. ذهبت أغلب التوقعات إلى أن المنافسة ستنحصر فى جولة الإعادة بين مرشحى «الإخوان» و«النور»، إلا أن حضور الشوبكى واشتباكه مع الناس وقضاياهم واستخدامه خطابا سياسيا يتضمن بدائل وحلولا، جعله منافسا قويا. استخدم كوادر «الإخوان» فى تلك المعركة كل أدوات الدعاية السوداء لتشويه الشوبكى؛ ووصل الأمر إلى تكفيره واعتبار من يصوت له آثمًا. ومع ذلك، صمد الرجل، وجمع حوله مجموعة من الشباب نفذوا حملات طرق أبواب لإقناع ناخبى الدائرة بمرشحهم. استطاع الشوبكى تحويل الدفة لصالحه فى تلك الدائرة الواسعة والمعقدة، وهو ما مكنه من الوصول إلى جولة الإعادة بعدما حصل على نحو 200 ألف صوت، ليواجه مرشح الإخوان القوى. أكمل الشوبكى معركته فى الإعادة، وعندما أدرك الإخوان خسارة مرشحهم أثناء فرز بطاقات الاقتراع، حاولوا إفساد المشهد وشككوا فى نزاهة القضاة، حتى أعلنت اللجنة المشرفة فوزه بنحو 160 ألف صوت. تكررت معركة الشوبكى، مع بعض السياسيين فى دوائر حضرية أخرى، فى تجارب أثبتت أنه عندما يقتنع الناخب المصرى بجدية المعركة الانتخابية وبوجود بدائل حقيقية ينزل إلى اللجان ليحقق إرادته. بالقطع، شهدت تلك المرحلة خيبات متتالية؛ فالقوى المدنية انشغلت بمعارك وصراعات هامشية، تاركة الملعب للإخوان وحلفائهم، ما مكنهم من الاستحواذ على البرلمان ثم الحكومة وأخيرا الرئاسة؛ توهموا أنهم قادرون على ابتلاع مؤسسات الدولة، فسقطوا سريعا، وطوى الشعب المصرى صفحتهم. فى انتخابات مجلس النواب الأخيرة، وفى الدائرة نفسها «الدقى والعجوزة» بعد إضافة الجيزة إليها بدلا من إمبابة، تنافس فى الجولة الأولى على مقعدى «الفردى» عدد من مرشحى الأحزاب الداعمة للحكومة، وعدد من المستقلين. لم يستخدم أى من هؤلاء خطابا سياسيا، ولم يطرحوا برامج انتخابية، ولم يجرؤ أحدهم على نقد الحكومة أو تقييم أدائها، من تحدث منهم قدم خطابا أقرب إلى مرشح المجالس المحلية، فيما اكتفى بعضهم بالاعتماد على الرشاوى الانتخابية، وهو ما انتهى بصدور حكم بإلغاء الانتخابات فى الدائرة، التى لم يصوت فيها أكثر من 16% من الناخبين. وفى الجولة الثانية، كما فى الأولى، غابت السياسة، وغاب معها الناخبون وكل مظاهر الانتخابات؛ كان العزوف هو سيد الموقف، فلم تتجاوز نسبة المشاركة 1٫7% من إجمالى الناخبين فى الدائرة، وفاز فيها نائب بأقل من 1% من إجمالى الأصوات. تكرر مشهد العزوف فى عدد من دوائر الحضر، فيما شهدت دوائر الصعيد والريف المحكومة بالتصويت القبلى والمناطقى نسب مشاركة أعلى، وصلت إلى 20% فى بعض الدوائر. يعود هذا التدنى الحاد فى نسب المشاركة إلى انعدام ثقة قطاعات كبيرة من الناس فى الانتخابات، فضلا عن حالة الارتباك التى أصابت العملية الانتخابية بعد بطلان نتائج بعض الدوائر، يضاف إلى ذلك اختفاء ظواهر الحشد وشراء الأصوات. غير أن السبب الأهم فى غياب الناخبين كان تغييب السياسة، فالمواطن لم يجد من يطرح عليه بدائل وحلول لتحسين أحواله المعيشية، أو من يعده بالتصدى لبعض سياسات الحكومة التى تسببت فى موجات تضخم أثقلت كاهله، فكان رد فعله الطبيعى «العزوف». هذا العزوف أسفر عن وصول مرشحين لا يمثلون سوى نحو 15% من الناخبين، شارك معظمهم لأسباب لا تمت بصلة لفلسفة انتخاب مجلس يُفترض أن يشرع ويراقب أداء السلطة التنفيذية نيابة عن الشعب. فتح الباب لعودة السياسة، وإتاحة مساحات كافية لحرية التعبير والتنظيم، لا يفتح الطريق للفوضى كما يتصور البعض، بل يضع قواعد لمؤسسات مستقرة تعبر عن إرادة الناس، وتحصن الدولة من أى شروخ وأزمات.