بدعوة من أحد مراكز البحوث السياسية التركية والمجلس البلدي لمدينة ماردين في جنوب شرق تركيا شاركت في بدايات الأسبوع الماضي بورشة عمل حول قضايا الديمقراطية في الشرق الأوسط وألقيت، ويا للمفارقة، بمركز أتاتورك الثقافي محاضرة حول حركات الإسلام السياسي العربية وأوجه الشبه والاختلاف بينها وبين حزب العدالة والتنمية التركي. وفيما يلي، أعزائي القراء، بعض ملاحظات ومشاهدات الأيام الماردينية ذات المغزى والدلالة حين التدبر في الكيفية الفعلية التي تغير بها الديمقراطية أوضاع المجتمعات والمواطنين إلى الأفضل والأجمل. تقع مدينة ماردين في جنوب شرق تركيا بالقرب من الحدود السورية، ولا تبعد كثيرا عن مدينة نصيبين والتي كانت مسرح واحدة من أعظم معارك وانتصارات الجيش المصري الحديث بقيادة إبراهيم باشا في مطلع القرن التاسع عشر، وتسكنها أغلبية من أصول عربية يضاف إليها أكراد وأتراك. وتمتزج اللغات الثلاثة، العربية والكردية والتركية، في الحياة اليومية ومعاملات السكان على نحو شديد التلقائية يعكس بالفعل للغريب العابر واقع مجتمع محلي يتعايش بسلمية وتسامح مع التعددية اللغوية والثقافية والعرقية الحاضرة به. لكن محدثيي من أهل ماردين دأبوا على تنبيهي إلى أن التعايش السلمي مع التعددية هذا وإن اتسق مع تاريخ المدينة الطويل، إلا أنه همش في عقود تسلط المؤسسة العسكرية التركية على الحكم ونزوعها إلى إنكار التعددية وفرض هيمنة الأتراك على الأكراد والعرب وغيرهم من المجموعات العرقية. ولم تستعد ماردين رونق التعايش السلمي سوى مع بدء الإصلاحات الديمقراطية في نهاية ثمانينيات القرن الماضي واستقرار الانتخابات النزيهة والدورية كآلية لاختيار ومحاسبة المسئولين على المستويين الوطني والمحلي وهو ما رتب احترام هؤلاء لإرادة المواطنين والعمل على التعبير المتوازن عن مصالح مجموعاتهم المختلفة، على الأقل في حده الأدنى. وللتدليل، أشار محدثيي أكثر من مرة إلى كون الرئيس المنتخب الحالي لبلدية ماردين من أصول عربية وإلى وجود عدد معتبر من المعاونين ذوي الأصول الكردية في إدارات البلدية وهو ما يختلف جذريا عن أوضاع الستينيات والسبعينيات والثمانينيات. بالقطع لم يقدم أهل ماردين العرب والأكراد الذين التقيت بهم صورة خالصة الإيجابية لواقعهم الراهن، بل عرضوا أيضا لمعوقات المساواة الكاملة بينهم وبين الأتراك ونواقص حقوق المواطنة التي يعانون منها، وأهمها محدودية تمثيلهم في المواقع التنفيذية الوطنية والقيود المفروضة على الأحزاب السياسية المعبرة عنهم وغياب الاعتراف باللغة الكردية كلغة رسمية ثانية. ينبغي الإشارة أيضا إلى الأوجاع الأخرى الخاصة بالأكراد وهي في المجمل ترتبط باستمرار التعامل القمعي مع حزب العمال الكردستاني على الرغم من مبادراته السلمية المتعاقبة ورفض السلطات التركية العفو عن زعيم الحزب عبد الله أوجلان الذي يقضي عقوبة السجن مدى الحياة. على الرغم من ذلك، لم يقلل أي ممن التقيت من الأكراد أو العرب وعلى تنوع مواقعهم من مسئولين تنفيذيين إلى أكاديميين مرورا بصحفيين وحزبيين من أهمية الإصلاحات الديمقراطية وتداعياتها الإيجابية وشدد العديد منهم على أن المستقبل القريب سيشهد المزيد من التحسن في أوضاعهم. هنا، تلمحوا أعزائي القراء، أحد جوانب عبقرية الديمقراطية كنظام لإدارة علاقة الدولة بالمجتمع والمواطنين، آلا وهو ثقة المواطنين الراسخة بالقدرة على دفع التغير الإيجابي إلى الأمام وتسليمهم الواقعي بأنه – أي التغير - لا يحدث بين ليلة وضحاها بل يتبلور تدريجيا. وعلى نقيض المجالس المحلية والبلدية غير الفعالة والفاسدة في الدول السلطوية، تقدم بلدية ماردين نموذجا لما يمكن للآليات الديمقراطية أن ترتبه حين تستقر على المستوى المحلي. نجح الرئيس المنتخب لبلدية ماردين، وهو عضو في حزب العدالة والتنمية الحاكم على المستوى الوطني والمسيطر على العدد الأكبر من البلديات، في رفع مستوى الخدمات الصحية والتعليمية المقدمة للسكان، وتطوير برنامج ثري للغاية لتثقيف السكان وتشجيع تعلم اللغة العربية والكردية، وشرع في تنفيذ مشروع طموح يموله اليونسكو لترميم وإحياء مباني ماردين التاريخية وهي إما كنائس وأديرة سريانية (أشهرها دير الزعفران) أو مدارس إسلامية (أشهرها المدرسة القاسمية واللطيفية) ووضعها على قائمة اليونسكو لتراث الإنسانية أملا في تشجيع السياحة الداخلية والخارجية. الهام هو أن ندرك أنه على الرغم من أن ترميم المباني التاريخية يقتضي إزالة الكثير من التعديات والمباني السكنية الحديثة التي تشوه واجهة المدينة ومن ثم يتطلب ترحيل بعض السكان، إلا أن أغلبية ساحقة من أهل ماردين يقفون وراء خطة رئيس البلدية بل ويقال أنها كانت العامل الفصل في نجاحه الانتخابي. قارنوا أعزائي القراء بين مثل هذه الوضعية الإيجابية لبلدية منتخبة وبين أحوال المجالس المحلية في مصر التي يسيطر عليها الحزب الوطني منفردا ويخنقها الفساد والمحسوبية وسوء الأداء. شاهدت في ماردين أيضا بعض التداعيات المباشرة لسياسة حكومة العدالة والتنمية تجاه جوارها المباشر والقائمة على مبدأ لا صراع (صفر من الصراعات في الخطاب الرسمي التركي) مع الجوار وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع بين تركيا من جهة وسوريا وإيران والعراق وأرمينيا وغيرها من جهة أخرى. اليوم يستطيع أهل ماردين العرب والأكراد التواصل مع أقربائهم في العامودة وقامشلي السوريتين وفي كردستان العراقية، ويأتي لماردين الكثير من شباب المدن السورية الواقعة على الحدود للعمل والإقامة. ليس فقط أن الديمقراطية تفرض التعايش السلمي كمبدأ لإدارة العلاقة بين العرب والأكراد والأتراك، بل تحفز على طبعنة العلاقات مع شعوب الجوار وصياغتها على نحو يخدم المصالح المشتركة. فما أبعد ذلك الوجه الجميل عن الوجه القبيح الذي أظهرته تركيا في الماضي بصراعاتها المستمرة على الموارد المائية مع سوريا وحملاتها العسكرية المستمرة ضد الأكراد في العراق. أما آن الأوان لمصر لتسير في ذات المسارات الإيجابية للديمقراطية؟