تحل هذه الأيام ذكرى رحيل الفيلسوف الألماني الكبير جورج فيلهلم فريدريش هيجل، والذي ولد في 27 أغسطس من عام 1770، ورحل في 14 نوفمبر من عام 1831، تاركا أحد أعظم المشاريع الفلسفية في التاريخ الحديث. يعد هيجل أحد أبرز مؤسسي المثالية الألمانية في أواخر القرن الثامن عشر، وآخر من بنى "مشروعا فلسفيا شاملا" يحاول تفسير العالم عبر منهج متكامل يوحّد بين الفكر والوجود والتاريخ. -الطفولة والبدايات ولد هيطل في مدينة شتوتغارت لأسرة بروسية من الطبقة البورجوازية الصغيرة، كان والده موظفا حكوميا، ووالدته ابنة محام في المحكمة العليا. تلقى تعليمه الأول في سن مبكرة للغاية، إذ عرف الأبجدية اللاتينية قبل دخوله المدرسة اللاتينية وهو في الخامسة. أظهرت طفولته شغفا كبيرا بالقراءة، فكان ينسخ مقاطع طويلة من الكتب التي يقرأها، وتأثر بكتاب عصر التنوير مثل ليسينج، وبالشاعر فريدريش كلوبشتوك، أما أطروحته المدرسية للتخرج فجاءت بعنوان: "حالة ركود الفن والمعرفة في تركيا".
توبينجن.. صداقة وصياغة عقل عام 1788 انتقل هيجل إلى كلية اللاهوت في توبينجن، وهناك نشأت واحدة من أشهر صداقات التاريخ الفكري، وهي هيغل، والشاعر هولدرلين، والفيلسوف شيلنغ، شارك الثلاثة الغرفة نفسها، وتأثر كل منهم بالآخر في الانشغال بالفكر اليوناني والثورة الفرنسية وأفكار التنوير. ورغم انهماك شيلنج وهولدرلين في مناقشة الفلسفة الكانتية، ظل هيجل بعيدا عنها حتى عام 1800، حين بدأ اهتمامه النقدي بفكر كانط، وفي تلك الفترة كان يريد أن يصير "فيلسوفا شعبيا" يبسط الأفكار الفلسفية للعامة.
العمل في برن وفرانكفورت بعد تخرجه، عمل هيجل 3 أعوام مدرسا خاصا لدى أسرة أرستقراطية في برن، وهناك كتب كتابه المبكر "حياة يسوع"، ثم انتقل إلى فرانكفورت بدعوة من صديقه هولدرلين، حيث كتب أعمالا مهمة لم تنشر في حياته مثل: "شذرات عن الدين والحب"، "روح المسيحية ومصيرها"، "أقدم نظام للمثالية الألمانية"، وكان تأثير هولدرلين على تكوينه الفكري في تلك المرحلة بالغا. -ينا.. الانطلاق الفلسفي عام 1801 انتقل هيجل إلى مدينة ينا بتشجيع من شيلنج، وعمل محاضرا دون راتب بعد تقديم أطروحة في الفلك، نشر في تلك السنة كتابه الأول: "الفرق بين فخته وشيلنج في النظام الفلسفي"، وبدأ تدريس المنطق والميتافيزيقا. شارك مع شيلنج في إصدار "مجلة النقد الفلسفي" التي استمرت عاما واحدا، وفي 1805 رقي إلى منصب بروفيسور، بعد رسالة احتجاج وجهها إلى الشاعر الكبير ووزير الثقافة وقتها جوته. تزامن إنهاء كتابه الأعظم "ظواهرية الروح" مع غزو نابليون لبروسيا عام 1806، قبل يوم من معركة ينا الشهيرة كتب هيجل وصفه الذي صار أحد أشهر نصوصه: "رأيت الإمبراطور -بطل هذا العالم- يمشي في المدينة يستطلع. إنه لشعور رائع أن ترى مثل هذا الشخص هنا في هذه اللحظة، ممتطيا جواده يجول في هذا العالم ويخضعه. هذا الرجل المذهل، يدفعك حتما لاحترامه". -جوهر الفلسفة الهيجلية أسس هيجل بناءه الفلسفي على فكرة الوحدة بين الفكر والوجود، وعلى المنهج الجدلي القائم على: "الأطروحة، النقيض، والتوليف". -المنطق والوجود ميز بين الحقيقة والوجود والوجود الفعلي، ورأى أن المعرفة تأتي من تفاعل الحس والعقل، لا فصلهما، ومن هذه العلاقة نشأت فكرته عن الوحدة المطلقة التي تحتوي السلب والإيجاب معا وتشكل أساس فلسفته كلها. وصفه الفيلسوف برتراند راسل بأنه: "أعصى الفلاسفة على الفهم وأكثرهم تعقيدا." ورأى هيجل أن فلسفته امتداد لكل الفلسفات السابقة من أفلاطون إلى أرسطو وكانط، وليست مشروعا منفصلا، بل محاولة لتفسير ما أراد الفلاسفة قوله عبر التاريخ.
-صعوبة اللغة والترجمة كتب هيجل بعض مؤلفاته لجمهور متخصص، لكن كتابه "موسوعة العلوم الفلسفية" كان موجها لغير المتخصصين رغم صعوبته، وكان يؤكد دائما أن اللغة الألمانية نفسها لغة فلسفية، وأن الترجمة قد تخون دقة المفاهيم.
-الوفاة والإرث في صيف 1831 ضرب وباء الكوليرا برلين، فغادر هيجل إلى كروزبرج، عاد مع بداية الدراسة معتقدا أن الوباء انتهى، لكنه أُصيب بالكوليرا وتوفي في 14 نوفمبر 1831، وكانت آخر كلماته: "وهو لم يفهمني". دفن في 16 نوفمبر في مقبرة دورتنشتات ببرلين إلى جانب فيشته وسولجر، ونشرت مؤلفاته في الجماليات وفلسفة الدين والتاريخ بعد وفاته.