الدفاعات الروسية تعلن تدمير 23 مسيرة أوكرانية كانت متجهة إلى موسكو    انقلاب سيارة الفنان علي رؤوف صاحب تريند "أنا بشحت بالجيتار" (صور)    محافظة الجيزة: تركيب شاشات عرض كبيرة في الميادين لنقل حفل افتتاح المتحف المصري الكبير    التوقيت الشتوي،.. نظام يساعد الأطباء على تحسين جودة الخدمة الطبية وتوازن الحياة العملية    الفاشر تشتعل مجددًا.. آخر تطورات الأوضاع في السودان    أمين عام حزب الله يتحدث عن إمكانية اندلاع حرب جديدة مع إسرائيل    الولايات المتحدة تكثّف وجودها العسكري قرب فنزويلا عبر سفينة حربية جديدة    جيش الاحتلال الإسرائيلى ينسحب من مناطق بحث حماس عن جثث المحتجزين في غزة    لاتسيو يقهر يوفنتوس.. وتعادل مثير بين فيورنتينا وبولونيا في الدوري الإيطالي    عبد الحفيظ: لا أميل لضم لاعب من الزمالك أو بيراميدز إلا إذا..!    وكيله: سيف الجزيري لم يتقدم بشكوى ضد الزمالك    الداخلية تضبط شخصين استغلا مشاجرة بين عائلتين بالمنيا لإثارة الفتنة    جهاز حماية المستهلك: لا توجد زيادة في أسعار السلع بعد تحريك المحروقات    من قلب الجيزة إلى أنظار العالم.. المتحف المصري الكبير يستعد لاستقبال زواره الأوائل    شعبة الأدوية: نقص 200 صنف بينها أدوية منقذة للحياة.. وضخ كميات كبيرة قريبًا    الطب الشرعي يحسم الجدل: «قاتل المنشار» بكامل قواه العقلية    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 27 أكتوبر 2025 في القاهرة والمحافظات    اتفاق اللحظة الحرجة.. واشنطن وبكين تقتربان من تهدئة حرب التجارة عبر المعادن النادرة و"تيك توك"    سعر الدولار اليوم الاثنين 27102025 بمحافظة الشرقية    «عائلات تحت القبة».. مقاعد برلمانية ب«الوراثة»    "البلتاجي "على كرسي متحرك بمعتقل بدر 3 ..سر عداء السفاح السيسى لأيقونة يناير وفارس " رابعة"؟    النجم الساحلي يودع الكونفيدرالية ويبتعد عن طريق الزمالك والمصري    مصدر مقرب من علي ماهر ل في الجول: المدرب تلقى عرضا من الاتحاد الليبي    مواعيد مباريات اليوم فى الدورى المصرى    بهدف قاتل ومباغت.. التأمين الإثيوبي يفرض التعادل على بيراميدز بالدور التمهيدي من دوري الأبطال    الزمالك مهدد بالاستبعاد من بطولات إفريقيا لكرة اليد.. الغندور يكشف التفاصيل    سعر التفاح والبطيخ والفاكهة في الأسواق اليوم الاثنين 27 أكتوبر 2025    عاجل - تحديثات الذهب مع بداية الأسبوع.. أسعار المعدن النفيس في مصر اليوم الاثنين 27 أكتوبر 2025    وفاة طفلين خلال حريق عقار في أبو النمرس.. تفاصيل    ارتكب 4 جرائم قتل.. قاتل الأم وأبناءها الثلاثة يواجه الإعدام    حالة الطقس في أسيوط الإثنين 27102025    مصرع طالبة بالصف الثالث الاعدادي صدمتها سيارة سرفيس بميدان الشيخ حسن بالفيوم    أسعار طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الاثنين 27 أكتوبر 2025    أنظمة الدفاع الروسية تتصدى لهجمات بطائرات مسيرة استهدفت موسكو    عمرو أديب: موقع مصر كان وبالا عليها على مدى التاريخ.. اليونان عندها عمودين وبتجذب 35 مليون سائح    ريهام عبد الغفور تطرح بوستر مسلسلها الجديد «سنجل ماذر فاذر»    أكاديمية الفنون تُكرّم اسم الفنان السيد بدير بإعادة عرض «عائلة سعيدة جدًا»    بكلمات مؤثرة.. فريدة سيف النصر تنعي شقيقها    مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 27-10-2025 في الشرقية    إسرائيل تنسحب من منطقة البحث عن جثث المحتجزين في غزة    احذري، كثرة تناول طفلك للمقرمشات تدمر صحته    نمط حياة صحي يقلل خطر سرطان الغدة الدرقية    الزبادي اليوناني.. سر العافية في وجبة يومية    علاج سريع وراحة مضمونة.. أفضل طريقة للتخلص من الإسهال    3 أبراج «هيرتاحوا بعد تعب».. ظروفهم ستتحسن ويعيشون مرحلة جديدة أكثر استقرارًا    فرصة ثمينة لكن انتبه لأحلامك.. حظ برج الدلو اليوم 27 أكتوبر    الجمع بين المرتب والمعاش.. التعليم تكشف ضوابط استمرار المعلمين بعد التقاعد    وصلت إلى 350 ألف جنيه.. الشعبة: تراجع كبير في أسعار السيارات (فيديو)    شيخ الأزهر: لا سلام في الشرق الأوسط دون إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس    شيخ الأزهر: لا سلام في الشرق الأوسط بدون إقامة دولة فلسطين وعاصمتها القدس    صحة القليوبية: خروج جميع مصابى حادث انقلاب سيارة بطالبات في كفر شكر    حملة لتحصين الكلاب في فوة ضمن خطة القضاء على مرض السعار بكفر الشيخ    الحسابات الفلكية تكشف موعد بداية شهر رمضان 2026    قيادات حزبية: كلمة الرئيس السيسي جسدت قوة الدولة ونهجها القائم على الوعي والسلام    برلمانية: سأعمل على دعم تطوير التعليم والبحث العلمي بما يواكب رؤية الدولة المصرية    هل رمي الزبالة من السيارة حرام ويعتبر ذنب؟.. أمين الفتوى يجيب    كنز من كنوز الجنة.. خالد الجندي يفسر جملة "حول ولا قوة إلا بالله"    مركز الازهر العالمي للفتوى الإلكترونية ، عن 10 آداب في كيفية معاملة الكبير في الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التاريخ وكيف يُستخدَم
نشر في الشروق الجديد يوم 26 - 10 - 2025

سجّل فرانسيس فوكوياما فى كتابه «نهاية التاريخ» بروز فراغ فى الفكر الاقتصادى الاجتماعى، وكانت محطّته البارزة انهيار الاتحاد السوفيتى. لقد أعلن نهاية الصراع الإيديولوجى بين الأفكار الاشتراكية/ الشيوعية والأخرى الليبرالية/ الرأسمالية، لكنّ مقولته عن الانتصار النهائى لليبرالية الديمقراطية حول العالم لم تتحقّق. إذ أفسح تراجع الإيديولوجيات العالمية، أى الشمولية لكلّ المجتمعات البشرية، المجال لبروز أفكار الهويّات الخاصة كى تملأ تقريبا وحدها الفراغ.
لم ينتهِ التاريخ، بل عاد بقوّة كمرجعية للتحوّل من سؤال «ما الذى يجب فعله؟» إلى «من نحن؟»، ما يتطلّب رواية من الماضى تبرّر أصلًا وتاريخًا مشتركًا، وعصرًا ذهبيًا مجيدًا أسّس ل«حضارة» رمزية. وقد خلق هذا التحوّل أدوات سهلة للسياسيين والمفكرين لحشد الدعم الشعبى، والدفع نحو مواجهة بين «نحن» و«هم»، أى أولئك الآخرون، استنادًا إلى روايات انتقائية من التاريخ تلعب على رواسب ثقافية ودينية ومذهبية. وقد استغلّ صامويل هنتنجتون هذه العودة ليتنبأ ب«صراع حضارات»، بناءً على خطوط صدع تاريخية ودينية لا يمكن رأبها.
وقد أدّى هذا المسار إلى انهيار الدول المتعدّدة الأعراق والمذاهب، كيوغوسلافيا السابقة، واستحضار كلّ طرف فى حربها الأهلية لروايات قديمة مقابل البناء المشترك الذى تلا الحرب العالمية الثانية. ولعبت دول خارجية على تعزيز شرخ الهويات. كذلك ظهرت ردود شعبية عنيفة على الليبرالية (وخصوصًا الجديدة المفرطة) وعلى العولمة، محاولةً اللجوء إلى هوية مميّزة ضد النخبة العالمية المهيمنة من ناحية، وضدّ المهاجرين أو اللاجئين من ناحية أخرى. وأكبر مثال على ذلك الولايات المتحدة ذاتها وشعار الرئيس دونالد ترامب «لنجعل أمريكا عظيمة مرّة أخرى»: عودة إلى تاريخ ماضٍ مثالى مفترض أفضل وأكثر قوة وتماسكًا، يُعطى شعورًا بالاستقرار والسيطرة، ترافقه حملات على المهاجرين فى بلد تأسّس تاريخه على استقبالهم. وقد ساعد الإنترنت وغيره من وسائل التواصل الاجتماعى على تكوين «قبائل رقمية» تدعم هذه التحولات.
وهكذا أصبحت أهمّ دولة كانت تنادى بعولمة الاقتصاد هى نفسها التى تفرض رسومًا جمركية باهظة على الجميع. وأضحت، وهى التى كانت عاملًا أساسيًا فى تأسيس الأمم المتحدة وأجهزتها المختلفة، أكبر مناوئ لها ومُستهزئة بمبادئها. وأصبح القرن الحادى والعشرون ساحةً أصبحت فيها الروايات والذكريات والهويات التاريخية المتضاربة هى العملة الأساسية الجديدة للصراعات السياسية وبين الدول. ولم تعد المعركة الاجتماعية والفكرية تدور حول رؤى متضاربة لصناعة المستقبل، بل حول السيطرة على الماضى لشرعنة السلطة فى الحاضر وتوجيه الهيمنة فى المستقبل.
• • •
كانت الصهيونية سبّاقة فى هذه التحولات؛ إذ بدأت منذ القرن التاسع عشر، واستخدمت روايات دينية لتبرير استعمار استيطانى فى أرض «موعودة» منذ قِدم التاريخ، مع التغاضى عن أنّ وعد سفر التكوين كان للنبى إبراهيم ولجميع نسله من بعده، بمن فيهم إسماعيل، بعيدًا عن التفسيرات الروحية أو التاريخية للنصّ الدينى. لكنّ الإشكالية بقيت فى بداية مشروع الدولة العبرية بين تخصيص الوعد لأرض فلسطين أو لجزء منها، وبين نصّ الوعد الحرفى «من الفرات إلى النيل». إلا أنّ نصًا آخر تمّ إبرازه بعد احتلال الجولان السورى لتبرير ضمّه إلى الدولة العبرية؛ نصٌّ عن أرض «باشان» التى انتصر فيها النبى موسى وقومه على ملكها عوج، ثم وزّعها على أسباط الراويين والجاديين ونصف سبط منسّى. وهنا أيضًا تبرز إشكالية أنّ أرض باشان لا تعنى الجولان وحده بل سهول حوران (ولا تشمل جبل حوران أى جبل العرب اليوم، إذ إنّ جبل باشان هو جبل الشيخ الحالى)، وهى أرض خصبة ووافرة تنتج الحنطة والعنب وتنتشر فيها المراعى. كان سكّانها عمالقة واجهوا العبريين بشراسة. رواية تعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، كُتبت خلال الألفية الأولى، وتُستخدم سياسيًا فى الألفية الثالثة بعد الميلاد (!).
فى المقابل، استند ظهور فكر العروبة إلى مرجعيات تاريخية، بما فيها ما يُسمّى «الجاهلية» وشعرها، وخاصة الخلافة الأموية. إلا أنها شكّلت أساسًا لفكرة تحررية لبلاد ذات هويات متعدّدة تم استعمارها وتقسيمها. هكذا لم يكن للجزائر، آخر المستعمرات، أن تتحرّر لولا مصر وسوريا وتونس. لكنها لم تكن حقًا «ذات رسالة خالدة»، كما يقول شعار حزب البعث، وفشلت جميع محاولات إيجاد صيغ تعاون حتى بين الدول التى تحمل فى تسميتها صفة «العربية»، وحتّى على مستوى ما قامت به أوروبا. هُزمت «العروبة» فعليًا مع «نكسة» 1967، وبرزت مع هزيمتها مشاريع هويات أخرى إثنية ومذهبية. ومنذ «الثورة» الإيرانية، تمّ استحضار خلاف سياسى بين سنّة وشيعة يعود إلى أكثر من 1300 سنة لتبرير صراع حديث طغى فعليًا على قضية فلسطين ومحوريتها بالنسبة لأى فكر عربى أو حتى إسلامى.
هكذا تمّ تصوير العدوان الأخير على لبنان المستمرّ إلى اليوم على أنه هزيمة للمحور الشيعى، وكأنّ شيعة لبنان وحدهم المعنيون بمشروع الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة بمجملها الذى أطلقه نتنياهو منذ 7 أكتوبر 2023. وتمّ تصوير سقوط النظام البائد فى سوريا على أنه انتصار «أموى» (!)، استعادة لمظلومية «قميص عثمان» التاريخية التى كانت قد استُخدمت سياسيًا لتبرير انتصار فريق من أصحاب الرسول محمد (صلّى الله عليه وسلّم) على فريق آخر، مع التغاضى عمّا يقوله التاريخ الإسلامى والعربى عن طبيعة الخلافة الأموية ونهجها الفكرى والدينى وعلاقتها مع الأقوام والهويات الأخرى فى زمنها. استعادة للخلافة الأموية فى حين تهدّد إسرائيل مباشرةً نوى وجابيتها (تلّ الجابية، أحد أشهر أبواب دمشق)، عاصمة معاوية بن أبى سفيان الأولى.
• • •
فى زمن الفراغ الفكرى وهيمنة مقولات «من نحن؟»، لا يمكن بناء دول قانون تعتمد حرية الاعتقاد والرأى والهويّة على سردية تاريخية تُخرَج من سياقها، بل على مبادئ حقوق الإنسان العالمية والمواطنة المتساوية ضمن الدول. ولا معنى لعلاقات مستدامة بين دول قائمة على أساس تاريخى يُخرَج أيضًا من سياقه، كالسلام «الإبراهيمى» الذى يُبعد فكرة المواطنة المتساوية على أرض فلسطين التاريخية وعلى الدولة القائمة عليها.
فى المقابل، يمكن أن تشكّل المرجعيات التاريخية أساسًا لإحياء تراث وثقافة أكثر انفتاحًا وثراءً من تلك المعتمدة اليوم. هكذا يمكن إبراز مدينة رفح فى غزة كمكان زواج كليوباترا الأولى (المدعوة «السورية»)، ابنة الملك السلوقى، وريث الإسكندر الأكبر، على فرعون مصر البطلمى، الوريث الآخر، لإيقاف الحروب الطويلة بين الورثة، كرمز للعلاقة التاريخية الراسخة بين بلاد الشام ومصر. كما يمكن إبراز العلاقة بين البتراء النبطية وقفط (Coptos) فى محافظة قنا المصرية فى السياق ذاته.
وفى سوريا، يمكن إبراز كيف شكّلت أسرة ملوك كهنة من حمص والرستن أسرة السويرية الإمبراطورية الرومانية، التى ما زال قوس نصرها شامخًا فى ما بقى من آثار روما اليوم. وكيف أنّ قرقلا، ابن جوليا دومنا الحمصية، كان هو الذى أصدر قانونًا جعل من كل قاطنى الإمبراطورية حينها مواطنين متساويين (عدا العبيد)، وكيف أنشأ (أو ربما أبوه) مدرسة القانون الشهيرة فى بيروت، «أم الشرائع»، هذا عدا آثار حمّاماته الشهيرة فى روما.
كما يمكن استذكار تاريخ عماد الدين أبو الفداء، الأيوبى الكردى الذى منحه الناصر صلاح الدين لقب ملك حماة، والذى حافظ على حكمه فيها قرنًا من الزمن بعد انتصار المماليك على الأيوبيين فى مصر ودمشق، وذلك بفضل حكمته وثقافته وعلومه فى الدين والتاريخ والجغرافيا والفلك والأدب، وبفضل انفتاحه على مذاهب عصره. هكذا حتى استحق أن يُسمّى علماء فلك أوروبيون جبلًا فى القمر باسمه.
رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.