ما قصدتُ بالعنوان المذكور أعلاه خوضًا فى مشاريع «الممرات الاقتصادية»، التى غدت أحدث صيحات التعاون الاقتصادى الجيوسياسى بين الدول فى هذا الزمان. تلك التى تتجلّى فى سلسلة مترابطة من المناطق الجغرافية الحيوية، تستهدف تحفيز التنمية الاقتصادية من خلال توفير بنية تحتية لوجستية متكاملة تصل مراكز الإنتاج بمواضع الطلب. وتتضمن هذه الممرات عادة طرقا برية وسككا حديدية وموانئ، تُستخدم جميعها لتسهيل وتعزيز التجارة والاستثمار والتنمية الاجتماعية والاقتصادية على نحو تكاملى بين طائفة من البلدان. أعنى بعنوان المقال اسم فيلم روائى مصرى طويل، من إنتاج عام 1972، مأخوذة قصته عن مسرحية «أغنية على الممر» للكاتب والمؤلف المسرحى الشهير على سالم. وقد تصدى لمهمة إخراج ذلك الفيلم المميز المخرج الواعد حينها على عبد الخالق. أما السيناريو والحوار فكانا من نصيب السيناريست مصطفى محرم، بينما خاض غمار بطولة الأداء التمثيلى عملاق الدراما العربية محمود مرسى، رفقة محمود ياسين، صلاح قابيل، أحمد مرعى، صلاح السعدنى، ومديحة كامل. وفى حين كانت الأغانى من تأليف شاعر الأرض عبد الرحمن الأبنودى، انبرى فى نظم كلمات الأغنية الرئيسية «تعيشى يا ضحكة مصر» الشاعر أمير طعيمة، فيما استأثر بالألحان الموسيقار الرائع عمر خيرت. تدور أحداث الفيلم حول فصيلة مشاة مصرية مكوّنة من خمسة أفراد حوصرت أثناء حرب 1967، وهى تدافع عن أحد الممرات الجيوإستراتيجية الحيوية الثلاثة فى سيناء. ورغم هزيمة الجيش المصرى وتلقيه توجيهات من قياداته بالانسحاب، فيما ضرب العدو حصارا قاسيا وباشر ضغوطا هائلة عليها، رفضت الفصيلة الاستسلام وأصرت على مواصلة مهمتها الوطنية المنوطة بها حتى آخر رمق. وطوال أيام الحصار، استعرض الفيلم التجارب الإنسانية للجنود، كما غاص فى مشاعرهم التى كانت تتضمن مزيجًا من الإحباط المتصارع مع طموحات ما قبل الحرب وأمنيات وأحلام ما بعد النجاة المحتملة من الحصار والهلاك المحقق. وعلى وقع المعاناة المريرة، يسرد كلٌّ منهم مشواره بكل ما ينطوى عليه من نجاحات وإخفاقات. فقد كان قائد المجموعة، الشاويش محمد، الذى جسّد العبقرى محمود مرسى دوره ببراعة وإتقان، هو الفلاح الذى اضطرته الحروب المتوالية إلى مفارقة أرضه، التى تمثل عرضه ومصدر رزقه ووطنه الأصغر، للذود عن وطنه الأكبر. أمّا حمدى، فهو الفنان الوطنى الذى يناضل لانتشال الأغنية المصرية من براثن الإسفاف والابتذال اللذين يلاحقانها. وبصحبتهم شوقى، ذلك الموهوب المتمرد المولع بالمثالية، الباحث عن ميدان عادل يثبت فيه جدارته ويستعيد فى رحابه ثقته بذاته. ثم يأتى مسعد، العامل البسيط الذى لا يرجو من حياته سوى عش زوجية هادئ يظله هو وحبيبته. وأخيرًا، يجىء منير، الانتهازى الرعديد. وتحت وطأة هجمات العدو المتحالفة مع جفاف الإمداد والتموين، يستشهد جلّ الفصيلة عدا قائدها الشاويش محمد والجندى المقدام شوقى، أو محمود ياسين، اللذين يظلان رابضين متأهبين بل ومصرّين على مواصلة مهمتهما الاستشهادية لحماية الممر حتى انقضاء الأجل. يعبّر فيلم «أغنية على الممر» عن تيار جديد من صناع السينما عُرف ب«الواقعية الجديدة»، بلورته ما سُمِّى حينها «جماعة السينما الجديدة». وهى حركة سينمائية تأسست عام 1968 كمحاولة شبابية جادة لممارسة النقد الذاتى للحركة السينمائية المصرية وقتذاك، حيث حدّد بيان تأسيسها أهدافًا من قبيل تقديم سينما مختلفة عن السائد، واستعادة جمهور السينما المحلى، والوصول بالسينما المصرية إلى آفاق العالمية، بما يتيح التعمق فى دراسة المجتمع المصرى وتحليل تفاعلاته؛ بغية اكتشاف مغزى حياة الفرد وسط محيطه المجتمعى. فضلًا عن صناعة سينما مستقلة تعكس حقيقة الواقع المصرى بمختلف تعقيداته، مع تسليط الضوء على أزماته التى هوَت به إلى مستنقع الهزيمة المرير. كما ترنو إلى التحرر من سيطرة رأس المال والإنتاج التجارى عبر صناعة سينما جديدة وأفلام جادة تستنفر وعى الجماهير بدلًا من تزييفه أو تغييبه، وذلك من خلال الاستفادة من الموجات والاتجاهات الجديدة فى السينما العالمية. وقد تأثرت تلك الحركة المصرية الناهضة بتجارب سينمائية عالمية ظهرت وقتها، مثل: الموجة الجديدة فى فرنسا، والسينما الحرة فى بريطانيا، وألمانيا، وتشيكوسلوفاكيا، وسينما «الأندرجروند» فى نيويورك، والتجارب السينمائية التى عرفتها أوروبا الشرقية تحت ربقة القبضة الحديدية للنظام الشمولى. وقد ضمت الجماعة فى عضويتها مخرجين على شاكلة رأفت الميهى، محمد راضى، على عبد الخالق، داود عبد السيد، وأشرف فهمى، ونقادًا مثل: سامى السلامونى، سمير فريد، يوسف شريف رزق الله، خيرية البشلاوى، وعلى أبو شادى، علاوة على عدد من المصورين والمونتيرين السينمائيين. تسنّى لجماعة «السينما الجديدة» صناعة فيلمين وفق نظام الإنتاج المشترك، بالتعاون مع المؤسسة المصرية العامة للسينما؛ أولهما «أغنية على الممر»، وثانيهما «ظلال على الجانب الآخر»، وهو فيلم حربى من إخراج المخرج الفلسطينى غالب شعث. قبل بدء تصوير الفيلم الأول، أبدى السياسى عبد المجيد أبو زيد، الذى كان وقتها مسئولًا عن التوزيع السينمائى الداخلى والخارجى، كما كان يشغل منصب أمين العاصمة بالاتحاد الاشتراكى، حماسًا شديدًا للسيناريو. ولما كانت له كلمة مسموعة لدى المسئولين بالمؤسسة العامة للسينما، اقترح على مخرجه على عبد الخالق مشاركة المؤسسة العامة للسينما فى إنتاج الفيلم، على أن يدخل بمجهوده ويحصل هو وأبطال الفيلم على 20% من أجورهم، مع تأجيل 80% المتبقية إلى ما بعد العرض، فيما يتم التنازل عنها حالة فشله تجاريًا. فوافق على عبد الخالق وباقى صُنّاع الفيلم، وكذلك فعل المخرج غالب شعث مع فيلمه «ظلال على الجانب الآخر». وبعد عرضه جماهيريًا، حقق «أغنية على الممر» نجاحًا ملفتًا، إذ ظل ثلاثة أسابيع معروضًا فى كبريات دور العرض السينمائى بالقاهرة ثم الإسكندرية. وقام عبد المجيد أبو زيد بدعوة وزير الحربية وقتذاك الفريق صادق، ومعه سيد مرعى رئيس مجلس الشعب، لحضور عرض الفيلم بسينما ريفولى. وبعد انتهاء العرض، أبدى الوزير إعجابه الشديد به، وأشاد بالمشرف العسكرى على تصويره، والذى لم يكن له وجود من الأصل بسبب تواضع الإمكانات وانكماش الميزانية. ثم قرر دعم صُنّاع الفيلم ماديًا ومعنويًا عبر شراء عدة نسخ منه، مع إرسال نسخة للعرض فى ليبيا. وعلى ندرة هذه النوعية من الأفلام، يُعتبر «أغنية على الممر» أهم فيلم حربى فى تاريخ السينما المصرية. فرغم تواضع إمكانات إنتاجه إلى الحد الذى حال دون توفير مستشار عسكرى للمساعدة فى تصوير المشاهد الحربية، فيما لم تتجاوز ميزانيته الكلية 19 ألف جنيه شملت أجور الفنانين، فقد ارتقى «أغنية على الممر» إلى مستوى الأفلام الحربية العالمية المميزة، لاسيما تلك التى أنتجتها هوليوود بإمكانات هائلة وتجهيزات جبارة عن الحربين الكونيتين أو حرب فيتنام. فلقد تبوأ المركز رقم 66 ضمن قائمة أفضل 100 فيلم مصرى، حسب استفتاء أجراه النقاد عام 1996 بمناسبة مرور قرن كامل على أول عرض سينمائى بالإسكندرية عام 1896. وكان الاختيار بدايةً من عام 1927، حيث تم عرض أول فيلم مصرى روائى بعنوان «ليلى» وحتى عام 1996. كذلك، اكتسب فيلم «أغنية على الممر» أبرز سمات العمل الإبداعى الفنى الراقى، ألا وهى التأثير فى الجمهور أو المتلقى. ففى حينه، قام اتحاد طلاب جامعة القاهرة بتنظيم ندوة عن الفيلم حضرها ألف طالب وبعض صُنّاعه، من أمثال: على عبد الخالق، صلاح السعدنى، والناقد سامى السلامونى. وعقب العرض والنقاش، انطلق الحاضرون فى تظاهرة حاشدة اعتُبرت وقتها إرهاصات لانتفاضة الطلبة الشهيرة عام 1972، للمطالبة بالديمقراطية وخوض حرب تحرير الأرض التى احتُلّت إثر حرب 1967. وقد حصل الفيلم على عدة جوائز محلية ودولية، أهمها: جائزة مهرجان كارلوفى فارى (تشيكوسلوفاكيا)، وجائزة مهرجان طشقند (أوزبكستان). وفى نوفمبر 2022، اختاره الفنان حسين فهمى، رئيس مهرجان القاهرة السينمائى الدولى آنذاك، للترميم والعرض خلال الدورة الرابعة والأربعين للمهرجان، تكريمًا لمخرجه على عبد الخالق المتوفى فى أكتوبر من السنة ذاتها. شكّل فيلم «أغنية على الممر» خطوة مهمة على درب إجهاض مخططات العدو الرامية إلى سلب إرادة أمتنا عبر ترسيخ ثقافة الهزيمة. فمن خلال رسالة الصمود والتحدى التى أطلقها أبطاله فى نهايته، أرسى قيم المقاومة واستنهاض حماس الأمة لأجل عبور الهزيمة باسترداد أرضها المحتلة واستعادة كرامتها المهدَرة. وإذا كانت «جماعة السينما الجديدة» قد مارست نقدا ذاتيا فنيا للخطاب السينمائى المصرى عقب هزيمة 1967، مبتغية صياغة لغة سينمائية تستعيد الوعى وتستنهض الأمة لتعويض ما فاتها بدلًا من تغييب الجماهير وتعميتها، فإننا اليوم لَفِى مسيس الحاجة إلى تحرك مماثل تتبناه مختلف المؤسسات المعنية بالتنشئة وتشكيل الوعى وبناء الشخصية، مثل الإعلام والثقافة والدراما والتعليم. حيث يجدر بها إحياء «روح أكتوبر»، لتبقى معينًا مُلهما لا ينضب، يمدّنا بإكسير الصمود والإنجاز والوحدة الوطنية وروح الفريق، كيما تظل أمتنا دومًا قادرة على تجاوز التحديات وتخطى الصعاب.