يبدو أن العام المقبل سيولد من رحم التقلبات؛ فأسواق الذهب تتحرك كمرآة دقيقة تعكس أدقّ اهتزازات الاقتصاد العالمى وأى انفعال فى لهجة صانعى القرار، بينما يتأهب مؤشر الخوف لرصد تداعيات موجة جديدة من الحمائية المتصاعدة بين واشنطنوبكين، فى وقت تدخل فيه أوروبا على الخط بسلسلة من القيود الجمركية والبيئية التى تزيد المشهد تعقيدا. غير أن الصورة تبقى ناقصة من دون تتبّع مسار الدين العام وأسواق السندات، التى أصبحت اليوم الموجه الخفى لقرارات البنوك المركزية، ومحركا أساسيا لاتجاهات المستثمرين نحو الأصول المادية كالمعادن والعقارات. لم يكن صعود الذهب طوال عام 2025 مجرد استجابة لتراجع شهية المخاطرة وتراجع الدولار، بل نتيجة طبيعية لتكاثر بؤر التوتر التجارى والمالى، فضلا عن استمرار التقلبات الجيوسياسية. فكلما اقتربت واشنطن من فرض رسوم جديدة على الواردات الصينية، أو تحدثت بكين عن تقليص صادرات المعادن النادرة، انطلقت موجات شراء مكثّفة للمعدن الأصفر باعتباره الملاذ الأكثر ثقة، وسط عجز العملات والسلع عن تحقيق توازن مستقر. ارتبط الذهب فى السنوات الأخيرة بما يسميه الاقتصاديون «الملاذ الإدراكى»، أى الملاذ الذى لا يرتبط بعائد حقيقى بقدر ما يعكس مستوى القلق فى الأسواق. لذلك لم يعد الذهب محكوما فقط بتكلفته أو فائدته، بل بشدة المخاوف التى تحيط بالاقتصاد العالمى. وقد أظهر مؤشر الخوف (VIX) حساسيةً غير مسبوقة تجاه الأخبار الجيوسياسية، إذ كانت القفزات اللحظية فيه تُترجم إلى طلب فورى على الذهب والعوائد قصيرة الأجل. أصبحت العلاقة بين الذهب والمؤشر علاقةً عضوية؛ فكل ارتفاع فى مؤشرات القلق يعنى عمليا تزايد احتمالات التصحيح فى الأسهم، ومن ثم تسارع الطلب على الذهب. اللافت أن هذه العلاقة لم تعد لحظية فقط، بل امتدت زمنيا لتؤثر فى قرارات البنوك المركزية ذاتها، التى أصبحت تراعى أثر تحركات الأسواق قبل اتخاذ قراراتها الخاصة بسعر الفائدة أو بسياسات التيسير الكمى والكيفى. • • • غير أن الوجه الآخر للمشهد المضطرب يتمثل فى انفلات الديون، التى تمدّدت إلى مستويات غير مسبوقة منذ جائحة كورونا، وهو ما أعاد إلى الأذهان المخاوف التى سبقت تفشيها حين كانت مؤسسات التمويل الدولية تدق نواقيس التحذير. فقد تجاوز الدين الفيدرالى الأمريكى حاجز 37 تريليون دولار، بينما ارتفعت كلفة خدمته فى الاقتصادات الناشئة إلى نسب تقترب من تلك التى سبقت أزمات التسعينيات. أما فى أوروبا، فقد عادت حكومات كبرى كإيطاليا وفرنسا إلى سياسة الاقتراض طويل الأجل لتمويل الدعم الصناعى ومواجهة التباطؤ، لتُنعش بذلك هواجس عودة أزمة ديونٍ سيادية جديدة، وإن بوسائل أكثر مرونةٍ هذه المرة. وهكذا تتشكّل ملامح ما يمكن تسميته ب«الركود المُمَوَّل بالدَّين»؛ ذلك النمط الذى يُبقى الاقتصادات صامدة مؤقتا، لكنه يرحل أزماتها إلى المستقبل عوضا عن معالجتها من الجذور. هذا الثقل المالى جعل البنوك المركزية أكثر ترددا فى رفع الفائدة رغم ضغوط التضخم؛ إذ لم يعد القرار النقدى محكوما فقط بمستويات الأسعار، بل أيضا بقدرة الحكومات على تحمّل كلفة الاقتراض. وهكذا تقلّصت حرية السياسة النقدية تدريجيا، وأصبح الذهب الرابح الأكبر فى ظل هذه المعادلة المزدوجة: تضخم يتعذر كبحه تماما، وأسعار فائدة لا يمكن رفعها بما يكفى من دون مضاعفة قيد العجز الموازنى. وإذا أضفنا إلى ذلك زيادة إنفاق الدفاع والطاقة والتحول الأخضر، فإن مسار الدين فى 2026 يبدو مرشّحا لمزيد من التوسع لا الانكماش. من اللافت أن عوائد السندات طويلة الأجل واصلت صعودها طوال عام 2025 رغم هشاشة النمو وتراجع شهية المخاطرة، فى إشارةٍ إلى تبدّل جوهرى فى علاقة المستثمرين بالدَّين الحكومى. فالمأوى الآمن بالأمس لم يعد كذلك اليوم؛ إذ غدت السندات نفسها مصدرا للتقلّب، وموطنا لقلق المستثمرين الذين يلوذون بالذهب أو الدولار عند كل اهتزاز فى الأسواق. وقد كشفت موجات البيع الحادة التى اجتاحت سوق السندات عن حالة من الانقسام فى التوقعات، بين من يرى ركودا وشيكا يدفع العوائد إلى الهبوط، ومن يعتقد أن التضخم سيبقى مزمنا، ما يبرّر ارتفاع العائدات. ومع اقتراب عام 2026، يُنتظر أن تزداد هذه الأسواق حساسية لأى إشارة من مؤشرات الخوف، خصوصا فى الولاياتالمتحدة التى تتهيأ لاستحقاق انتخابى (التجديد النصفى للكونجرس) يهدد بتوسيع العجز ورفع وتيرة الإصدارات الحكومية. وكل ارتفاع جديد فى العائدات يعنى تضخما فى كلفة خدمة الدين، ومن ثمّ عودة الذهب إلى موقعه الطبيعى كملاذ ضد تآكل الثقة فى الأصول الورقية. • • • كل موجة من السياسات الحمائية ضد الصين أو غيرها من الدول والتكتلات ترفع تكاليف الواردات وتضغط على الموازنات العامة للحكومات عبر قنوات الدعم والمساندة، فيرتفع العجز وتتسع الحاجة إلى التمويل، ثم تتفاقم الديون مجددا. هذه الحلقة المفرغة تدفع العالم نحو اقتصاد يزداد اعتماده على الاقتراض، وتنحسر فيه الثقة بالنقود والأصول المالية. فى مثل هذا المناخ، لا يعود الذهب مجرد سلعة استثمارية، بل يتحول إلى نقود بديلة غير رسمية يثق بها الأفراد والمؤسسات والدول على حد سواء. وربما نرى فى 2026 عودة الجدل حول «معيار ذهبى جزئى» تستخدمه بعض الدول لربط عملاتها أو سنداتها باحتياطى المعدن النفيس كوسيلة لطمأنة الأسواق. ولم تعد الحمائية الحديثة تقتصر على الرسوم الجمركية، بل اتخذت أشكالا أكثر دهاءً تحت مسمّى «القيود غير الجمركية»، كان أبرزها آلية تعديل حدود الكربون (CBAM) التى أطلقها الاتحاد الأوروبى لتسعير الانبعاثات الكربونية فى السلع المستوردة. فبينما تُقدَّم هذه الآلية بعبارات بيئية نبيلة، فإنها تُعد فى جوهرها أداةً جديدة لحماية الصناعة الأوروبية من المنافسة الآسيوية، خصوصا الصينية، وتكريس نوع من التمييز التنظيمى ضد الدول النامية التى لا تمتلك بعد القدرات التكنولوجية لخفض بصمتها الكربونية. ومع اتساع نطاق هذه السياسات، يتحوّل «الكربون» إلى تعريفة جمركية مقنّعة، تُهدد بزيادة تكاليف الإنتاج فى سلاسل الإمداد العالمية، وتعيد توزيع موازين التجارة على أسس بيئية لا تخلو من حسابات القوة والنفوذ. إذا استمر التصعيد التجارى على حاله، فستتجه الأسواق إلى موجة جديدة من الحذر، ترتفع فيها أسعار الذهب فوق مستوياتها التاريخية، بينما تتذبذب السندات بشدّة، وتزداد حساسية المستثمرين لأى إشارة سياسية أو عسكرية. أما إذا هدأت المواجهة نسبيا، فسيظل الذهب مستقرا عند مستوى مرتفع دون طفرات، لكنه سيحتفظ بمكانته كملاذ للقيمة. وفى حال تحقق سيناريو الركود التضخمى، فستفقد السندات بريقها وتتدفق رءوس الأموال نحو الذهب، ما يجعل عام 2026 اختبارا قاسيا للبنوك المركزية التى ستجد نفسها بين مطرقة التضخم وسندان العجز. أما إذا نجح العالم فى إعادة هيكلة سلاسل التوريد وتخفيف الاعتماد المفرط على الصين، فقد يهدأ التضخم تدريجيا وتستقر العائدات، بينما يبقى الذهب احتياطيا استراتيجيا أكثر منه أداة مضاربة. • • • تؤكد تجربة الأعوام الأخيرة أن الاقتصاد العالمى يعيش مرحلة تشابك المخاطر لا فصلها؛ فالدين العام بات مرآة للتوتر التجارى، والذهب أصبح مؤشرا لمدى ثقة الأسواق فى السياسات النقدية، ومؤشرات الخوف تعكس تآكل القدرة على التنبؤ. لا يمكن فصل هذه العوامل عن بعضها، بل يجب قراءتها كوحدة واحدة تحدد ملامح العقد القادم. أما بالنسبة للاقتصادات النامية، ومنها مصر، فالمطلوب ليس فقط إدارة الدين وإعادة هيكلته، بل إعادة صياغة العلاقة بين السياسات المالية والهيكل الإنتاجى، بما يقلل الحاجة إلى الاقتراض فى فترات الأزمات، ويمنح العملة الوطنية مرونةً أكبر أمام الصدمات الخارجية. ويمكن للذهب – سواء كمخزون احتياطى أو كأداة تحوط – أن يظل جزءا من سياسة مالية أكثر اتزانا تستوعب التقلبات بدل أن تنكسر تحتها. سيكون عام 2026 عاما للمراجعة الكبرى فى الأسواق: مراجعة لعلاقة الثقة بين المستثمر والدين الحكومى، ولجدوى أدوات السياسة النقدية بعد عقدٍ من التيسير المفرط، ولقدرة الاقتصاد العالمى على تجنب الركود التضخمى. وفى كل هذه المراجعات سيبقى الذهب فى قلب المشهد؛ فكل ارتفاعٍ فى الدين أو فى مؤشرات الخوف، أو كل انتكاسة فى مسار التجارة، تعنى ببساطة مزيدا من البريق لهذا المعدن القديم الذى لا يصدأ، والذى لا يزال قادرا على أن يعكس فى لونه الأصفر المضىء كل درجات قلق العالم المعاصر.