فى ظلّ الانحياز الغربى الصارخ، سواء فى أوروبا أو الولاياتالمتحدة، لصالح إسرائيل فى حروبها الممتدة واعتداءاتها المستمرة على غزة والضفة الغربية، وعلى لبنان والعراق وسوريا واليمن وإيران، وبالنظر إلى تبنّى الغرب لرواية دولة الاحتلال، المقترن بالدعم السياسى والاقتصادى والعسكرى غير المحدود، لا سيما من جانب الولاياتالمتحدة، يكتسب أحدث مؤلفات المؤرخ المعروف إيلان بابيه «الضغط لصالح الصهيونية على جانبى الأطلسى» أو اللوبى الصهيونى فى بريطانياوالولاياتالمتحدة، أهمية خاصة، حيث يجيب الكتاب بوضوح عن أسباب الانحياز، ويتتبع على مدار قرن ونصف كيف استطاع اللوبى الصهيونى على ضفتى الأطلسى تشكيل سياسات أوروبا والولاياتالمتحدة تجاه القضية الفلسطينية والشرق الأوسط عامة. وكيف شكل اللوبى الصهيونى المواقف السياسية والثقافية الغربية. لقد قام الضغط الصهيونى العدوانى، على حد تعبير الكاتب بإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط. ونجحت جماعات الضغط الموالية لإسرائيل فى إقناع صانعى السياسات البريطانيين والأمريكيين بالتغاضى عن الانتهاكات الإسرائيلية الصارخة للقانون الدولى، وتقديم مساعدات عسكرية غير مسبوقة لإسرائيل، وحرمان الفلسطينيين من حقوقهم الأساسية. يعد إيلان بابيه من أبرز المؤرخين الإسرائيليين الجدد، وهم مجموعة من الأكاديميين الذين أعادوا قراءة التاريخ الإسرائيلى والصهيونى بناءً على وثائق أرشيفية حديثة، وكشفوا عن جوانب لم تُطرح سابقًا فى الرواية الرسمية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق ب «النكبة الفلسطينية» عام 1948. ويعرف عن بابيه نقده الشديد للصهيونية بوصفها مشروعا استعماريا مسئولا عن التطهير العرقى للفلسطينيين. تعرض بابيه بسبب مواقفه وآرائه وكتاباته إلى الانتقاد والتهديد، مما دفعه للهجرة من إسرائيل والانتقال للإقامة فى بريطانيا، حيث يعمل أستاذا للعلوم الاجتماعية والدراسات الدولية ومديرا للمركز الأوروبى للدراسات الفلسطينية فى جامعة إكستر. • • • يكشف بابيه فى مقدمة عمله الضخم، الذى يبلغ عدد صفحاته754 صفحة والصادر عام 2024 عند دار نشر «ونوارلد»، كيف أصبح كل من تجرأ على التشكيك فى هذا الدعم غير المشروط لإسرائيل، حتى بعبارات معتدلة، هدفا لحملات تشويه لا هوادة فيها. ويوضح المؤرخ ببراعته المعهودة كيف بُنى هذا الإجماع الذى بدا غير قابل للتغيير وكيف يمكن تفكيكه. لقد أدرك القادة الصهاينة الأوائل ضمنيا منذ البداية وفقا لتحليل المؤلف أن مشروعهم غير عادل بطبيعته، فلم يبذلوا جهدا كبيرا لكسب قلوب وعقول الجماهير والشعوب، وبدلا من ذلك توجهوا بكل قوة لكسب النخب السياسية والاقتصادية وأصحاب القرار، خاصة هؤلاء الذين يحملون خلفية مسيحية إنجيلية. يطرح إيلان بابيه فى فكرة أن اختيار التركيز على النخب الإنجيلية المسيحية لم يكن صدفة. فقد كانت هذه المجموعات، تاريخيا، تحمل قناعات لاهوتية عميقة مرتبطة بعودة المسيح، والتى ربطوها ارتباطا وثيقا ب «عودة» اليهود إلى فلسطين. هذا الارتباط الدينى قدم أساسا أيديولوجيا قويا للدعم، بعيدا عن أى اعتبارات سياسية أو إنسانية مرتبطة بحقوق الفلسطينيين. فى الفصل الأول من الكتاب والذى جاء بعنوان «التبشير المسيحى بالصهيونية»، يتتبع الكاتب الدعوة الصهيونية المبكرة بين المسيحيين الإنجيليين فى القرن التاسع عشر فى بريطانياوالولاياتالمتحدة ودور القادة الصهاينة الأوائل فى القرن التاسع عشر، مع تسليط الضوء على دور كل من اللورد البريطانى أنطونى أشلى - كوبر أحد رموز المسيحية الصهيونية والكاهن البريطانى الصهيونى وليام هشلر كنماذج دافعت عن إقامة دولة يهودية فى فلسطين. ودعمت الحركة الصهيونية سياسيا واقتصاديا. وكيف تماهت أفكار هذه التيارات الدينية مع الطموحات الإمبريالية الغربية، مما يمهد الطريق لحملات الضغط الصهيونية المستقبلية. فى الفصلين الثانى والثالث «الضغط من أجل وعد بلفور» و«الطريق إلى وعد بلفور»، يحلل الكاتب الضغط المكثف والاستراتيجيات التى مارسها العملاء الصهاينة - خاصة حاييم وايزمان - وأنصارهم المسيحيون فى الضغط على النخب السياسية والارستقراطية البريطانية ونجاحهم فى إصدار وعد بلفور. ويعده الكاتب علامة فارقة فى تاريخ الضغط الصهيونى لأنه نتج عن ضغط سياسى منظم ومستمر وليس عن جهود دبلوماسية. وفى الفصل الرابع «الضغط فى بريطانيا خلال الانتداب»، يتتبع الكاتب أنشطة اللوبى الصهيونى خلال الانتداب البريطانى فى فلسطين. ويناقش جهود اللوبى للتأثير على السياسات البريطانية وتوسيع المستوطنات اليهودية. بالإضافة إلى ذلك، يناقش التحديات التى واجهتها خلال هذه الفترة، بما فى ذلك التحولات فى السياسة البريطانية، والمقاومة الفلسطينية، واندلاع الحرب العالمية الثانية. يتناول الفصل الخامس الضغط الصهيونى المبكر فى الولاياتالمتحدة، يغطى تشكيل جهود الضغط الصهيونية الأمريكية، المدعومة إلى حد كبير من قبل المسيحيين الصهاينة، مما يمهد الطريق للمنظمات الرسمية اللاحقة. ويسرد تفاصيل صعود التعبئة الصهيونية بين النخب الأمريكية، مما أدى إلى دعم مؤسسى مبكر، بما فى ذلك تشكيل الكونجرس اليهودى الأمريكى. ويخصص الكاتب الفصل السادس لتحليل دور الصهاينة الأمريكيين فى التعامل مع الهولوكوست. ويدرس كيف شكل الضغط فى حقبة الهولوكوست سياسات اللاجئين الأمريكية وكيف ولد التعاطف والنفوذ السياسى الواقعى. • • • فى الفصل السابع يتنقل الكاتب بين ضفتى الأطلسى ليحلل الضغط من أجل إسرائيل فى بريطانيا ما بعد الحرب الثانية. ويركز على فترة ما بعد عام 1948، وعلى كيفية استجابة جماعات الضغط الصهيونية البريطانية لولادة إسرائيل والقضية الفلسطينية الناشئة. ويسلط الضوء على تأثير الولاياتالمتحدة فى منتصف القرن العشرين وكيف ضغطت «أيباك» والجماعات المتحالفة معها من أجل التصويت على التقسيم فى الأممالمتحدة وحاربت المعارضة الداخلية، بما فى ذلك مقاومة القيود المفروضة على اللاجئين وسياسات الأراضى. حتى عندما بدأ المجتمع المدنى فى الغرب والولاياتالمتحدة تحديدا فى التشكيك من سلطة ونفوذ اللوبى الصهيونى ومع صعود مشاعر مناهضة لهذا اللوبى فى أعقاب حرب 1967، بدأت جماعات الضغط الصهيونية فى التشهير بالمناهضين، بدأت فى تفعيل مصطلح «معاداة السامية». مع تراجع دور بريطانيا السياسى فى العالم يركز الكتاب من الفصل الثامن حتى الفصل العاشر على اللوبى الصهيونى فى الولاياتالمتحدة. الفصل الثامن «الضغط من أجل إسرائيل فى أمريكا فى القرن العشرين» يتتبع صعود القوى الصهيونية الأمريكية، مثل مجلس الطوارئ الصهيونى الأمريكى وأيباك، وتأثيرها على سياسات الولاياتالمتحدة فى الشرق الأوسط. أما الفصل التاسع «الضغط من أجل إسرائيل فى أمريكا فى القرن الحادى والعشرين»، فيحلل كيف ظلت جماعات الضغط الأمريكية ذات تأثير قوى، بما فى ذلك أثناء المناقشات حول إيرانوغزة وغيرها من قضايا الشرق الأوسط. ويشير الكاتب إلى الحرب ضد المجتمع المدنى الأمريكى، ويصف الجهود المنسقة لقمع المنظمات غير الحكومية الأمريكية والأصوات الناقدة، باستخدام الضغط المالى والحملات السياسية. يعود الكاتب مرة أخرى فى الفصل الحادى عشر إلى بريطانيا «لضغط من أجل إسرائيل فى بريطانيا فى القرن الحادى والعشرين» ليظهر كيف تم نزع الشرعية عن السياسيين البريطانيين المناهضين للسياسات الإمبريالية والصهيونية مثل جيريمى كوربين. ولا ينسى الكاتب فى صفحات كتابه الأخيرة التوقف عند السابع من أكتوبر والمستقبل، وانتقاده لتصرفات إسرائيل بعد هجمات السابع من أكتوبر، ويرى أن مواقف الدول الغربية ونخبها المنحازة انحيازا أعمى إلى الرواية الإسرائيلية ما هى إلا نتاج عقود طويلة من الضغط المستمر الذى يركز على النخبة والمدفوع بالقلق الأخلاقى مما أنتج إجماعا سياسيا غربيا عميق الجذور لدعم إسرائيل على الرغم من التناقضات والقيود المتكررة. ويتسأل الكاتب عن كيفية تفكيك هذا الإجماع، ويقدم رؤيته حول كيفية إضعاف أو تفكيك تأثير اللوبى الصهيونى. يُعد هذا الكتاب شهادة تاريخية موثقة ومدعومة بالبحث الأرشيفى الجاد لأكثر من قرن ونصف من نفوذ جماعات الضغط الصهيونية الأنجلو أمريكية وتأثيرها على موقف الغرب من إسرائيل والصراع والقضية الفلسطينية. إنها قصة القسوة المطلقة، الكفاءة العالية، والقوة الهائلة لهذا اللوبى الإسرائيلى، مع إقرار بابيه بوجود بعض الحدود لتأثيره من حين لآخر. ورغم وجود بعض الانتقادات لاستنتاجات ومنهجية وتكرارات إيلان بابيه، فإن الكتاب يعد مرجعا مهما فى دراسة صنع السياسات فى الشرق الأوسط.