وقف الأستاذ رابح زغلول فى منتصف الحجرة ينظر إلى تلامذته الذين جلسوا حول المائدة فى صف دراسى يتلقون منه العلم. معروف طبعا أن رابح من الأدباء الذين أصابوا شهرة كبيرة بعد أن حققت رواياته مكانا متميزا فى رفوف ال بيست سيلر فى المكتبات. لم يشأ الرجل أن يحتفظ بسر الخلطة لنفسه وإنما سارع فى تأسيس ورشة يتم الانتساب إليها بعد دفع الاشتراك الشهرى لمن أراد أن يتعلم كيفية كتابة الرواية والقصة. من الغريب أن مثل هذه الورش تجد دائما مشتركين يدفعون المال عن طيب خاطر لقاء أن يتأهلوا لدنيا الكتابة التى تقود حتما - كما يظنون - إلى المجد! فى الحقيقة أن الأستاذ كان يقضى الوقت كله فى الحديث عن نفسه وكيف شق طريقه فى دنيا الكتابة بعد تخرجه فى كلية الألسن قسم اللغة الإسبانية وكيف ساعده هذا على قراءة الآداب اللاتينية فى لغتها الأم. حدثهم أيضا عن تأثره بأعمال الأديب الأرجنتينى خورخى بورخيس، كذلك الكاتب المكسيكى أوكتافيو باث، فضلا عن ظنه بأن خيطا رفيعا يربطه إبداعيا بجابرييل جارثيا ماركيز. مع مرور الوقت شعر زغلول بأن الطلبة بدأوا يتململون لأنهم يقضون الحصة تلو الحصة دون أن يشرح لهم أى طرق للكتابة أو أساليب يجب أن يتمرنوا عليها، كما بدا أن حكاياته لم يعد لها نفس الأثر القديم، لهذا فقد شرع فى حصة اليوم فى تطبيق مبدأ جديد. قال للدارسين: سنكتب معا رواية عظيمة.. جميعكم ستشتركون معى فى كتابتها. تهلل الطلبة فرحا للفكرة وأسعدته هذه الروح التى سرت فى الفصل من جديد. قال: مثلما قدم ماركيز "مائة عام من العزلة» و«خريف البطريرك» فإننى أنوى كتابة رواية عن دكتاتور لاتينى، وأنوى أن أضمّن أفكاركم جميعها فى هذا العمل الذى لا أشك أنه سيكون ملحميا. انبرى أحد الطلاب متسائلا: ولماذا تكتب عن دكتاتور لاتينى بينما بيئتنا العربية تكتظ بالكثيرين منهم ويمكن استلهام العمل الأدبى من جنون أحدهم وشطحاته؟. أشعل الأستاذ رابح سيجاره قبل أن يقول: هذا السؤال مهم، لكن ماذا فى ظنك يميزنى عن كل أدباء جيلى؟ لم ينتظر الإجابة وقال: ما يميزنى هو الشجاعة والإقدام واجتياز عوالم لم يطرقها أحد قبلى.. عندما أكتب عن دكتاتور لاتينى فإننى أطرق أبواب العالمية وبعدها لن تكون نوبل صعبة المنال!. بدت الإثارة فى ملامح الأستاذ تنتقل إلى وجوه الطلبة وأحس كل منهم أنه سيكون شريكا فى عمل كبير تتجاوز أصداؤه المنطقة العربية وتتم ترجمته إلى كل اللغات. أكمل الأستاذ قائلا: ولقد اخترت اسما للرواية بعد أن تبلورت ملامحها فى ذهنى.. سيكون اسمها: «باتيستا الزغلولى» ولقد اخترت اسم باتيستا على اسم دكتاتور كوبا الشهير، أما الزغلولى فهو اشتقاق من اسمى!. قال هذا ثم أضاف فى حماس: يا شباب دعونا نكتب التاريخ معا. سألته فتاة حسناء تحضر الصف معه منذ أكثر من سنة دفعت خلالها مبالغ كبيرة قيمة الاشتراك وما زال لديها أمل فى المجد: هل يمكن أن تحدثنا عن بعض محاور الرواية قال: هى عن دكتاتور غير تقليدى، فهو فضلا عن نهبه للمال وقمعه للأصوات وقطعه للرقاب، له اهتمامات فنية، ويقوم من وقت لآخر بإحضار فريق البولشوى إلى المسرح الكبير ويملأه بالآلاف من محبى الفنون الراقية الذين يأتون صاغرين لأنه يؤمن بعدم جدوى أن يشاهد العروض العظيمة وحده. هذا الرجل لن يكتفى بالبولشوى لكن سيحضر أوركسترا برلين السيمفونى وأوركسترا فيينا أيضا ليستمع منهم إلى مقطوعات بيتهوفن وشوبان وموتسارت وغيرهم من أساطين الموسيقى الكلاسيك، كما سيجلب أبرع راقصى التانجو من الأرجنتين ليقدموا أمامه إبداعاتهم الفنية الراقصة. وفى هذه السهرات لن يدعو كبار رجال الدولة، لأنه يعلم أنهم لا يتذوقون الفنون الراقية. توقف الأستاذ قليلا يستطلع أثر كلامه على الوجوه ثم أضاف: الجديد فى هذه السهرات هو أن الديكتاتور سيصطحب معه إلى المسرح صينية فتة كوارع بالخل والثوم مع حلة شوربة لسان العصفور يتوسطها أرنب مسلوق بالإضافة إلى طبق ممبار كبير والكثير من المخلل.. وسوف يستمتع برؤية السفرجية يفرشون المائدة الصغيرة ويضعون الطعام أمامه ثم يبتعدون مسرعين ليفتحوا له مجال الرؤية قبل أن ينالهم غضبه.. ومن الضرورى أنه سيشرب الشوربة بصوت مرتفع ولن يتردد فى رفع السلطانية والعبّ منها مباشرة.. كل هذا سيفعله وهو يتابع العازفين ويمضى معهم صعودا وهبوطا، ولن ينتهى العرض قبل أن يكون قد أتى على صينية الفتة وأكل بعدها طبقين قمر الدين. قطع استرساله أحد الطلاب متسائلا: لقد شاهدنا يا أستاذ فيلما اسمه «الموت والعذراء» للمخرج رومان بولانسكى وهو مأخوذ عن مسرحية بنفس الاسم يحكى أيضا عن جلاد لاتينى كان يعذب الثوار وهو يستمع إلى مقطوعات كلاسيكية. انزعج الأستاذ زغلول وقال فى غضب: هل تتهمنى بسرقة الفكرة؟. تلعثم الشاب ثم فضّل أن يسكت. ما لا يعلمه الطلاب المساكين أن الأديب الكبير رابح زغلول لم يقرأ الأدب اللاتينى لا بالإسبانية ولا بالعربية، كما لم يقرأ أى شىء آخر، وإنما اعتمد فى كتابة رواياته التى حققت أعلى المبيعات على استنساخ أعمال «خليل حنا تادرس».. وهو تقريبا الكاتب الوحيد الذى قرأ أعماله!