يدهشنى البحر بمقاومته وعناده. تتلاطم أمواجه دون انقطاع أو كلل.. حركة دءوبة ذات طبيعة وثابة، فى حين الضفاف لا تجرى. أنظر إلى البحر، وكثيرون غيرى، بوصفه مساحة حرة تتحدى هيمنة البشر على مستويات عدة. يسير كرجل متمرد يعرف كل المسارات السرية للغابة التى نعيش فيها، بمقدوره أن يكسر القواعد وفق ما يشاء. مازال الغموض يكتنف أعماقه، فلم نسبر أغواره بالكامل. أحيانا يثور ضد تصرفاتنا، خاصة عندما تزداد درجة العبث وعدم احترام التوازن البيئى. ترتفع الأمواج وتفور المياه، ونقف حائرين على الشاطئ، لا نفهم، ولا نستطيع السيطرة.. فمن وقت لآخر يذكرنا باستقلاليته عن أهل الأرض. قال الأقدمون إن «من يتحكم فى البحر يقود العالم ويتمتع بالنفوذ على الأرض»، لذا اشتعلت المنافسات التاريخية عليه بين القوى العظمى المتلاحقة، كما ظهرت القرصنة، بعضها تفويضية تمنحها دول بعينها لسفن مدنية مسلحة لمهاجمة مراكب الأعداء، وبعضها يعتمد على الخارجين عن القانون وقطاع الطرق. وبدأت التشريعات تدريجيا منذ عصر النهضة فى محاولة التفرقة بين هؤلاء وتنظيم العلاقات بين البلدان المتشاطئة. • • • السفن التى تجرى فيه تقاوم أيضا بدورها. تبحر أحيانا ضد التيار، وتزداد المقاومة لمواجهة الرياح والمد والجزر وظروف الجليد. وقد يتخذ منه الناس سبيلا للمقاومة وفك الحصار عن شعب مكلوم انتهكت كل حقوقه، كما رأينا أخيرا حين استقل عدد من النشطاء الأجانب قاربا لحمل مساعدات غذائية وطبية إلى غزة، ولكن تم اعتراضهم من قبل الجيش الإسرائيلى فى المياه الدولية، على بعد 42 ميلا بحريا عن الساحل المصرى فى بورسعيد، وقد تابعنا خلال الأيام الماضية ملابسات احتجازهم والتحقيق معهم وترحيلهم. كانت على متن السفينة «مادلين»، المحامية الفرنسية ذات الأصول الفلسطينية، ريما حسن، عضوة البرلمان الأوروبى، التى ولدت فى مخيم النيرب لللاجئين بالقرب من حلب ووصلت إلى فرنسا فى سن التاسعة تقريبا مع عائلتها التى تنتمى فى الأساس لقرية البروة شرقى عكا، ونزح أفرادها سنة 1948. قبل تغيير مسار السفينة «مادلين» وتحويله إلى ميناء أشدود، على الساحل الشرقى للبحر المتوسط، شاهدت برنامجا تليفزيونيا يغطى رحلة الناشطين لكسر الحصار، ودار حديث هاتفى بين ريما حسن ومادلين كُلاب، أول فتاة فلسطينية تعمل فى الصيد البحرى فى قطاع غزة، والتى أطلق اسمها على سفينة الإغاثة وصار رمزا للتضامن مع غزة ولصمود أهلها. فتاتان فى الثلاثينيات من العمر، فرضت النكبة وضع اللجوء على أسرتيهما، وكل واحدة منهما تقاوم على طريقتها ووفقا لظروفها، وقد جمعهما البحر هذه المرة. ورثت مادلين مهنة الصيد عن أبيها، واضطرت إلى العمل وسنها لا يتجاوز الخامسة عشر عاما بعد أن أصيب والدها بالشلل بسبب التهاب فى النخاع الشوكى. كان عليها تحمل المسئولية بما أنها أكبر الأبناء والبنات، وساعدتها فيما بعد أختها الأصغر ريم وأخوها خالد الذى ستفقده لاحقا فى مظاهرات العودة. تعلم والدها أصول المهنة من أبيه وجده اللذين عاشا، قبل النزوح، بمدينة عسقلان الساحلية (أشكلون حاليا) شمال غزة، وبالتالى اصطحب هو الآخر أولاده إلى البحر منذ الصغر. لذا تمرست مادلين على فنونه واستطاعت أن تقود قاربا وتصطاد وتتحدى الأعراف، إلى جانب متابعتها لدراستها هى وإخوتها، فالعائلة كانت تتلقى مساعدات الأونروا، وكالة الأممالمتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التى يتم إنهاؤها حاليا. • • • حديث مادلين منمق، فهى ذكية وقوية ومتعلمة. متزوجة من حب طفولتها، خضر، وأم لأربعة أطفال وتحمل الخامس فى أحشائها. قضت الحرب الأخيرة على الكثير من إنجازاتها، ونزحت ضمن آخرين إلى رفح، لكنها لم تيأس بل ظلت تجمع التبرعات والمساعدات من خلال صفحتها على الإنترنت، بما أنها قد صارت معروفة إعلاميا. ألهمت حكايتها قصة مصورة بعنوان «ست الكل» للكاتبة تغريد النجار، رسوم جلنار حاجو، كما تناولت عدة أفلام تسجيلية مسيرتها، من بينها «ع باب الله» و«مادلين» و«يعطى رجلا سمكة» و«أن تحب البحر فى غزة». نكتشف من خلال هذه الأعمال حياة صيادى غزة الذين وصل عددهم فى أوائل 2023 إلى 4900. كانوا يعملون على شاطئ يبلغ طوله 41 كم ومساحته الإجمالية 360 مترا مربعا، وسط صعوبات جمة، ففى حين أقرت اتفاقيات أوسلو أن منطقة الصيد المسموح بها 20 ميلا بحريا، غالبا ما تعرضوا للتنكيل، فتتقلص هذه المساحة إلى ثلاثة أميال فقط وأحيانا أقل. فى عام 2011، استطاعت مادلين كُلاب أن تحصل على منحة من مؤسسة دولية لشراء مركب أكبر حجما، ثم أخذت قرضا من البنك لكى تمتلك قاربا سياحيا يدر عليها دخلا إضافيا، حين يتوقف نشاط الصيد أو يشح الرزق بسبب التضييق لإسرائيلي. وبعدها قررت أن تساعد نساء أخريات، وذلك بتعليمهن الصيد وصناعة الشباك وطبخ المأكولات البحرية وتسويقها، من خلال نادى فريد من نوعه يتوجه بالأساس لزوجات وبنات الصيادين لكى يمكنهن من مساعدة الرجال فى توفير نفقات المعيشة. كتبت الصحف والمجلات عن كفتة السردين الشهية التى كانت تصنعها بحب مثل كل ما تشرف على عمله، لكن حرب الإبادة الأخيرة دمرت هذه الطموحات الصغيرة، كما ابتلعت إسرائيل أمل الوصول إلى غزة وإمدادها بالمعونات التى حملها أسطول الحرية. ذاع اسم «مادلين» أكثر وأصبح على كل الألسنة، كأنها كانت فى الأيام القديمة سمكة تحيا فى البحار، ثم تحولت مرة أخرى إلى لاجئة تسكن الخيام لا تجد أرضا صلبة تقف عليها. الشاطئ يعبق برائحة الموت.. حتى المياه المالحة سئمت السجن، فى ضوء قمر أصفر هزيل من فرط الأدخنة والقنابل.