تفككت حرب الجبهات السبع، وتمت خصخصتها: الجانب الأمريكى أخذ إيران والحوثيين والمفاوضات مع السعودية. وتركيا، أخذت سوريا، وتركت لإسرائيل خط «بارليف» الجديد، غير الضرورى، الذى يتشكل من سلسلة من المواقع المتقدمة. تؤدى ضغوط الدروز فى البلد إلى ضربات ينفّذها سلاح الجو فى سوريا، والتى تشكل رسالة واضحة للشرع، مفادها ألّا يتجرأ على المساس بالدروز، وهذا الأمر يجعلنا، على الأقل، أصحاب الشأن فيما يحدث فى جبل الدروز. فى لبنان، إسرائيل مقيدة، وتحت رقابة أمريكية. هذا فى الوقت الذى تحتفظ إسرائيل لنفسها بحرب فى ساحتها الخلفية فى غزة، هذه الحرب التى كان يمكن أن تعيد الرهائن وتنتهى منذ وقت طويل. خلال حرب فيتنام، كان الأمريكيون مقتنعين بأنهم متفوقون عسكريًا. اعتقدوا أنه لا يمكن هزيمتهم، بعد انتصارهم فى حرب عالمية طويلة على الألمان واليابان. كان تفوّقهم التكنولوجى على الفيتكونج مذهلاً، وحجم القوات الفتاكة التى كانت لديهم كبيرة إلى درجة لا يمكن مقارنتها بما يملك الفيتناميون الشماليون. وفى الأساس، كان الأمريكيون أسرى حب الأنا والجنون أمام الشيوعيين. فطوال الوقت، كانوا مقتنعين بأنهم سينتصرون بعد قليل، بعد مزيد من الجنود، ومزيد من القوة، ومزيد من احتلال الأراضى. وعلى الرغم من أن الرئيس ليندون جونسون والجنرال مكنمارا فهِما المشكلة فى مرحلة ما، فإنهما استمرا فى الكذب، بهدف استقطاب الرأى العام الداخلى. وهكذا سارت الإمبراطورية، خطوة خطوة، من «الانتصار على بُعد خطوة» إلى الوحل العميق الذى غرقت فيه. وفى النهاية، خرجت منه تجرّ أذيال الخيبة على يد الرئيس الرابع خلال الحرب جيرالد فورد، بعد 18 عامًا من النزيف والإذلال. • • • تتكرر قصة «عمى السلطة» نفسها عشرات المرات فى التاريخ، ولم تغِب عنّا. لقد تورطنا فى لبنان 18 عامًا، وعلقنا فى غزة 40 عامًا، حتى «خطة الانفصال»، ولم ينتصر الأمن فى الضفة الغربية على «الإرهاب» منذ 58 عامًا. يتغلب التنافر داخل الحكومة، التى تعمل بشكل غير عقلانى، على الفجوة بين نشوة القوة وبين ما يمكن تحقيقه فعلاً، الأمر الذى يعزز مركّب الإحباط. كذلك، ازداد الانفصال عن الواقع إلى درجة بات يتحول فيها من فجوة إلى تصدُّع. وعلى الرغم من اختلاف الوضع، فإن الحكومة الإسرائيلية أيضًا فى حالة إنكار شبيهة وعميقة. والمرعب أن هذا يحدث هذه المرة بعيون مفتوحة. إن خلاصة حالة الإنكار هذه هى أننا نعيش وهمًا، مفاده بأن استمرار الحرب سيقود إلى انتصار مطلق على حماس، هذه الحرب انتهت منذ زمن بإخضاع الحركة كتنظيم فعّال. الآن، تتكون الحركة من مجموعة متطرفة، هدفهم الاختباء والنجاة وإلحاق الضرر بين الحين والآخر. لا توجد أى عملية إضافية كثيفة تقوم بها ألوية، أو كتائب، يمكن أن تساعد على الحسم. ربما تكون العمليات الدقيقة التى تستمر أعوامًا طويلة فعالة إلى حد ما. وفى الوقت نفسه، لا توجد حكومة فى إسرائيل قادرة على اتخاذ القرار السياسى المطلوب. إن وجود سموتريتش وزيرًا فى حرب إسرائيل، على الرغم من أنه لا يملك أى فكرة، ولا يفهم حدود القوة، يمتزج بالإيمان المسيانى والسياسى، ويُضعف نتنياهو مرتين؛ يبدو ضعيفًا، ويخسر مزيدًا من المقاعد. يُدرك سموتريتش ضعف نتنياهو، ويستغله بشكل ممتاز، وبسهولة كبيرة. إنه يدفع بنتنياهو إلى حرب يريدها هو أيضًا، على الرغم من أنها تقوّى منافسيه الداخليين الذين لن يتركوه، حتى لو ذهب فى مسار اتفاق سياسى، أو تبادُل رهائن، لأنه ليس لديهم أى بديل. نتنياهو الذى كان يمكنه استغلال إنجازات الحرب لتحقيق إنجازات دبلوماسية إقليمية مهمة، غارق فقط فى حساباته السياسية الخاصة، الصغيرة والقاسية بشكل مرعب. إنه يمضى فى «حرب مضمونة» بالنسبة إليه. إنه يواجه عدوًا لا يقاتل، لكنه يترك له ذريعة الرهائن كسبب يسمح له بالاستمرار فى الحرب. إن حرب «النصر على بُعد خطوة» هذه، هى الأطول فى تاريخنا ضد العدو الأضعف أمامنا. إنه يذهب بكل قوته فى اتجاهين: ترك الجمهور مقيدًا بحرب كاذبة؛ وجهود موازية من أجل الإبقاء على الانقسام الذى يسمح له بالبقاء رئيسًا للحكومة من أجل قاعدته الجماهيرية فقط. وإذا أُجبر على المضى نحو الإجماع القومى، فإنه سيخسر كلّ القضايا المركزية، مثل إعادة الرهائن وقانون التجنيد للجميع ولجنة تحقيق رسمية مستقلة. بهذه الطريقة، يستطيع التلاعب بالجميع وكسب مزيد من الوقت. • • • وصلت الحرب الأطول فى تاريخنا على حدود العبث. لم تكشف كارثة 7 أكتوبر عن (حماس) قوية وعملاقة. ومن المحبط القول إن أصحاب النظرية التى رأت أن «حماس» قوة ضعيفة كانوا على حق. لكننا أخطأنا عندما اعتقدنا أنها لن تتجرأ على العمل. حدثَ 7 أكتوبر بسبب الفشل والاستهتار المطلق من طرف قواتنا الذين قدموا بلدات الغلاف ضحية على طبق من ذهب. ولم يكونوا سوى أعداء أتوا فى مركبات رباعية الدفع وعربات تجرّها الحمير، ويحملون الفئوس. صحيح أن هذا العدو استطاع ارتكاب «جرائم» مجنونة، لكن ما سمح له بالقيام بذلك هو إخفاق الحكومة. هى التى أخفقت عندما تركت الأبواب مفتوحة على مصراعيها، وبعد الاختراق، كان ردّنا فشلًا مطلقًا. وعلى الرغم من أن هذا العدو فعل بنا ما يريد خلال 7 ساعات، فإنه لم يتحول إلى عدو عملاق يبرر حجم هذه الحرب التى نقاتل فيها منذ عام و7 أشهر. والتى كان يجب أن تنتهى لأن الميدان فيها مركّب، بعد بضعة أشهر فى أبعد تقدير، وطبعًا، لم يكن يجب أن تستمر سنوات. خطوة العودة إلى الحرب الآن، فى الوقت الذى لا تزال حماس لا تقاتل هى بمثابة حرب سخيفة وغير ضرورية، وغير مبرَّرة. إنها حرب نتنياهو الثانية، بعد أن احتللنا القطاع سابقًا مرة واحدة، وفكّكنا الأطر العسكرية التى كانت لديهم، وفككنا ثلاثة أرباع غزة، وقتلنا 20 ألفًا من عناصر حماس. نذهب مرة أُخرى إلى حرب من دون هدف، وهدفها الوحيد هو أن يستطيع نتنياهو الإعلان أننا انتصرنا فى نقطة معينة لأن هذا سيكون لمصلحته السياسية حين يقرر، وستكون حربًا غير مبرَّرة، ومن دون إجماع. حاليًا، يحاول رئيس الحكومة بناء صورة للحرب على أنها «حرب استقلال»، وهو ما سيخدمه فى الانتخابات المقبلة، هذا فى الوقت الذى يقلل من أهمية موضوع الرهائن وهو الأمر الوحيد الذى يلقى إجماعًا. هذه الخطوة محزنة وتقوّى حماس جدًا، بعد أن كانت مسحوقة، وتسمح للحركة بأن تبنى لذاتها صورة البطل الإقليمى الذى لم تنجح إسرائيل فى هزيمته وقتًا طويلًا. من أجل هذه الخطوة، يجنّد نتنياهو رئيس هيئة الأركان إيال زمير، الذى أقنع نفسه بأنه سيحقق نتائج أفضل ممّن سبقوه، بدلاً من أن ينشغل بإعادة ترميم الجيش المستنزَف الذى يعانى جرّاء مشاكل كبيرة بعد الحرب الطويلة. إنه يجرّ وراءه دولة كاملة إلى التورط فى حرب من دون هدف، ومن دون تعريف، ومن دون أى موعد نهاية. هذه الحرب ستستنزف الإنجازات الموجودة، ولن تقود إلى أى انتصار. يجب أن نأمل بأن يفهم زامير أنه ملتزم إعادة الرهائن، أولاً وآخرًا. إن زيارة ترامب خلال منتصف مايو للسعودية يمكن أن تقود إلى نوع من أنواع التغيير، بسبب طلب السعودية وقف الحرب فى غزة. فى هذه الحالة، ستتغير خطط نتنياهو كلها، ولن يتجرأ على تحدّى ترامب، وسيكون عليه أن يذهب بعكس إرادته إلى خطوة إنهاء الحرب. الأمر السخيف هو أن ما سيكون على الطاولة، حينها، خطة حماس المهزومة، وليس خطة مَن أضاع إنجازات النصر التى تم دفع ثمنها من الدماء. يسرائيل زيف قناة N12 مؤسسة الدراسات الفلسطينية