أعادنى هذا الكتاب المهم إلى سنواتٍ عشت كثيرًا من أحداثها، وكتبت أيضًا عنها، والتقيت بعض أبطالها، وكانت سنوات التسعينيات تحديدًا أوقات توتر وصراع سياسى واجتماعى، وفوضى شعارات اختلط فيها الدين بالسياسة، وانكشفت فيها الكثير من الأقنعة. الكتاب الصادر عن دار بيت الحكمة بعنوان «دعاة عصر مبارك - سيرة سنوات التسعينيات»، للصحفى والباحث وائل لطفى الذى قدم سلسلة مهمة تعنى بتتبع ظاهرة الدعاة، وربطها، عبر منهج واضح، بمحيطها السياسى والاجتماعى والاقتصادى والثقافى، وبتحليلٍ عميق لآليات لعبة الدين والسياسة، سواء على مستوى الحكومات، أو على مستوى جماعات دينية محددة، تستخدم المنابر حينًا، وتلجأ إلى العنف والسلاح فى أحيانٍ أخرى. أفرزت هذه الدراسات كتبًا سابقة لوائل؛ مثل: «ظاهرة الدعاة الجدد»، و«دعاة السوبر ماركت»، و«دعاة عصر السادات»، ويستكمل كتاب «دعاة عصر مبارك» اكتشاف حدود الظاهرة فى توهجها وخفوتها، وفى تجلياتها عبر شخصياتٍ بعينها، يقوم الكاتب بتفكيكٍ انتقادى لمسيرتهم ولمعاركهم وللأفكار التى دافعوا عنها، أو عبر قراءة أعمق لظواهر ارتبط بها بعض الدعاة، مثل قصة شركات توظيف الأموال التى انتهت بكارثةٍ اقتصادية وإنسانية. يقدِّم الكتاب قراءةً لأدوار شخصياتٍ معروفة مثل الشيخ يوسف البدرى (التقيته شخصيّا فى بيته فى العام 1990)، والدكتور عبد الصبور شاهين، والداعية ياسين رشدى، والداعية عمر عبد الكافى، والمذيعة كريمان حمزة، والتى كانت أول مذيعة محجبة تظهر على شاشة التليفزيون، والتى استضافت فى برامجها بعض هؤلاء الدعاة. يرصد المؤلف علاقة بعض هؤلاء الدعاة بشركات توظيف الأموال، كما يربط هذه الأسماء بتحولات سنوات السبعينيات تحديدًا، والتى أعادت التيار الدينى لمواجهة اليسار والناصريين فى الجامعات، وفتحت المجال للإخوان من جديد. الفرضية المحورية عند وائل لطفى هى أن ظاهرة الدعاة الجدد، وكذلك شركات توظيف الأموال، ليست منفصلة عن جماعة الإخوان، بل هى تنويعات على نفس النغمة، وواجهات وامتدادات لنفس الدعوة، وإن اختلفت الوسائل والأشكال. أما اللافتة العامة التى انطلقت منها ظاهرة الدعاة الجدد فهى تعبير «الصحوة الدينية»، بل إن الشيخ يوسف البدرى كان ينوى تأسيس حزب يحمل اسم «الصحوة!». التعبير برّاق وخادع يأسر القلوب والعواطف، ولكنه لم يسفر إلا عن سراب وحصاد مرير من الأفكار المتطرفة، مثل الإساءة إلى المسيحيين، شركاء الوطن، مثلما يتضح من تحليل فتاوى ياسين رشدى وعمر عبد الكافى بعدم تهنئة المسيحيين بأعيادهم، ومثلما يتضح فى معارك تكفير نصر حامد أبو زيد التى ساهم فيها يوسف البدرى، ود. عبد الصبور شاهين، وسرعان ما تم تكفير د. شاهين نفسه، بعد أن أصدر كتابه «أبى آدم». الكتاب يتحدث بالتفصيل عن تلك الأمور، ويعمل كذاكرة باقية، خاصة أن هناك أجيالًا لم تعاصر ولم تقرأ، أو سمعت معلوماتٍ سطحية ومبتورة. لكن أفضل ما يضيفه الكتاب، بالإضافة إلى التوثيق، والتحليل النقدى، اعتمادًا على تسجيلات الفتاوى، والحوارات، والكتب والمذكرات، والأرشيف الصحفى عمومًا، أنه يتعامل مع الشخصيات كحزمةٍ واحدة، ويبحث عن عناصر مشتركة فى ظاهرة دعاة عصر مبارك. فبينما كان جيل الدعاة الكبار قادمين من خلفية دينية أزهرية؛ مثل الشيخ الغزالى، والشيخ الشعراوى، والشيخ عبد الحليم محمود، والشيخ كشك، فإن جيل البدرى ورشدى وشاهين وعبد الكافى، لم يدرسوا فى الأزهر، فقد تخرج البدرى وشاهين فى كلية دار العلوم، وتخرج ياسين رشدى فى الكلية البحرية، وتخرج عمر عبد الكافى من كلية الزراعة، كما يشير الكتاب إلى أن مظهر هؤلاء الدعاة، باستثناء البدرى، كان يأخذ شكلًا معاصرًا، مثل رجال الدين البروتستانت، بل إن طبيعة ودور المؤسسات الدينية والتعليمية والاجتماعية لدى هؤلاء، كما فى تجربة ياسين رشدى فى مسجد المواساة، كان يستلهم طبيعة وأدوار تلك المؤسسات الدينية والخيرية البروتستانتية. ورغم ارتباط الدعاة الجدد بمساجد بعينها، مثل ارتباط شاهين بمسجد عمرو بن العاص، وياسين رشدى بمسجد المواساة بالإسكندرية، وعبد الكافى بمسجد أسد ابن الفرات فى الدقى، وتأسيس البدرى لمسجد فى حلوان، فإنهم استخدموا أيضًا وسائل الإعلام كافة، سواء فى نشر أفكارهم، أو فى إدارة معاركهم، عبر الصحف والمجلات والتليفزيون، وكان ياسين رشدى يسمح بتسجيلات فيديو احترافية لفتاواه أو لدروسه فى المسجد. الأهم من ذلك أن ظاهرة دعاة عصر مبارك تميزت بأمرين مهمين؛ هما: محاولة التأثير عبر مواقع سياسية، مثل تجربة شاهين ويوسف البدرى، وعلاقة البدرى تحديدًا بالحزب الوطنى موضوع تحليل طويل فى الكتاب، والأمر الثانى هو محاولتهم التأثير فى الفئات العليا الأكثر شهرة وثراء، والتى بدأت فى الاهتمام بالدروس الدينية، وبالفتاوى أيضًا، مما فتح لهؤلاء الدعاة طريقًا واسعا للانتشار. لا يمكن فصل ظاهر الدعاة الجدد بالتالى عن فكرة الصعود الاجتماعى والاقتصادى للداعية نفسه، ارتباطًا بجمهور جديد أكثر ثراء متعطش للثقافة الدينية، ولا يمكن فصل الظاهرة عن الرغبة فى التأثير فى المشاهير، ويتناول الكتاب -مثلًا - دور بعض الدعاة، مثل عمر عبد الكافى، فى اعتزال بعض الفنانات. يمكن من خلال هذا التحليل الذى يربط الشخصية بعصرها والتحولات الطبقية والسياسية، فهم علاقة بعض الدعاة بشركات توظيف الأموال، ثم إنكارهم هذه العلاقة وتبرؤهم منها بعد تمخض التجربة عن كارثة أضاعت أموال المودعين. يعتبر وائل لطفى أن العام 1992 كان عامًا حاسمًا، حيث انتبهت الدولة أخيرًا، بعد اغتيال فرج فودة، إلى ضرورة إعادة النظر فى سياسة المهادنة مع الإخوان، والتى تم انتهاجها فى السنوات الأولى لحكم مبارك، كما تبين لها أن قيام الدعاة بنبذ وإدانة العنف شكليّا لا يعنى أنهم معتدلون أو متسامحون، لأنهم يقدمون أفكارًا وفتاوى أخرى تحرِّض على العنف والتطرف. فى المحصلة، بدت التجربة أبعد ما تكون عن صحوة تجديد وإصلاح، فما زلنا نجنى حصاد الآراء المتطرفة حتى اليوم، وما زلنا لا نستفيد من تجارب الماضى، وما زلنا نتجاهل علاج جذور هذا التطرف الذى يبدأ بكلمة، وينتهى بقنبلة.