هل يمكن أن يحمل الانتصار بين طياته هزيمة؟ بين أحداث رواية دار خولة للكاتبة بثينة العيسى الصادرة عن منشورات تكوين، تكمن الإجابة فيمن عايش ما شاهدته خولة بطلة الأحداث وجيلها بالكامل من أبناء الشعب العربى الذى شاهد الحرب على شاشات التلفاز، الحرب التى ضربت بالهوية العربية عرض الحائط وقتلت الروح آلاف المرات، قطعا يعرف إجابة هذا السؤال التى تأتى بالإيجاب، ولكن كيف انطوى انتصار الكويت على هزيمة وما أثرها عليهم؟ مهلا عزيزى القارئ فالهزيمة هنا يقصد بها هزيمة النفوس لا الحرب بعتادها وتراجع الجيوش وخروجها وصمت القنابل، فبالرغم من الانتصار ظلت آثار طلقات الرصاص جرحا فى النفس لا يندمل فمن منا لا تسبقه دموعه حين يرى مشاهد الحرب فى أحد الأفلام أو يقرأ عنها فى رواية، فالاعتداء كان من داخلك، منك وفيك، من ثقافة وحضارة عربية كانت حدودهما المشتركة التى أدعت القيادات النزاع عليها هى دليل تلاحمهم الحضارى وعبثية هذه النزاعات، فكيف يتحول ذلك بين ليلة وضحاها إلى شىء لا تذكر منه سوى رائحة البارود والزى العسكرى الذى قذف الرعب فى القلوب بدلا من أن يكون أمانك وقت الحاجة إليه. كانت خولة صورة للتمزق الذى خلفته الحرب فى جيلها، تمزق تجلى فى لحظة الإنكار التى أصابتها على أثر الصدمة حين نزلت إلى الشوارع توزع الحلوى على القوات الأمريكية وكأنها تطالبهم بالبقاء كطوق نجاتها الوحيد وفى قرارة نفسها تؤمن بالعكس تماما لكن بعد الحرب التى لم يتخيلها أحد فى أسوأ كوابيسه لم يعد هناك مكان للمشاعر، وحده الواقع وإن كان خطأ تاريخى هو من يتحكم فينا وفى حياة جيل بأكمله تمثل فى إصرارها على أن يتلقى أبناؤها تعليما أمريكيا، كل ما يستند عليه مستمد من ثقافة أخرى لا تعرفها لكن لا يسعها إلا أن تعترف بها. لم تدرك خولة حينها أن ما تفعله سوف يتحول إلى أزمة أخرى تشهد أثرها فى منزلها، منها ما حدث بعد انتهاء الحرب بأشهر ومنها ما حدث بعد الحرب بسنوات طويلة فكان الأقسى على الإطلاق لأنها تعيشه يوميا بين جدران منزلها وتحاول أن تغيره فلا تجدى محاولاتها. فبعد الحرب رحل زوج خولة الرجل الذى رغم قسوة الحرب ظل يقدس العادات والتقاليد، كان رمزا لجيل حفظ الهوية التى أصبحت فى مهب الرياح فيما بعد وذلك أمر منطقى، فلم تكن هذه الهوية بالرغم من قوتها وجذورها الضاربة فى أعماق التاريخ كافية لمنع شبح الحرب التى شوهت الشعبيين على حد سواء ولكن بطرق مختلفة، فمات زوج خولة مئات المرات قبل رحيله الأخير وهو متمسك وثقافته فى حين ينكرها المجتمع من حوله ويحاول بشتى الطرق أن ينساها وكانت زوجته أولهم. يرحل الزوج ويترك خولة فى منزل هجره الأبناء إلا من زيارات متقطعة تستجديها منهم بين فترة وأخرى، ومنهم من يلبى النداء ومن يتأخر وآخر لا يأتى أبدا، وبين هذا الانتظار المرير تتمسك خولة بصورة فى قلبها لا تكتمل أبدا، فلا يمكنها أن تشاهد عائلتها ملتفة حول مائدة طعام واحدة تعدها يوميا لهم وللأحفاد، للحد الذى يجعلها تلجأ إلى الخيال فتعيش هذه الحالة بصور مختلفة ولا يشغلها شاغل سواها بالرغم من أن ما يبدو على ظاهرها العكس تماما من ذلك، فيتحول البيت إلى خواء بالرغم من الحياة التى تحيط به ومازالت خولة تحاول، محاولات ترمز لها بحوض السمك الذى تحتفظ به فى منزلها ولا حياة فيه. ومن المنزل إلى شاشات الهواتف والتلفاز والتقنيات التكنولوجية التى وسعت الهوة ما بين الهوية الحقيقية والتاريخ الذى نحمله على أكتافنا تمثله العادات والتقاليد وبين ما نعيشه الآن، هذه الشاشات كانت بطلا من أبطال الأحداث فهذه أدوات العصر سلاح ذو حدين، تستخدمه هى للتوعية ومحاولة الرجوع إلى إرث عائلاتها الثقافى والحضارى، فتأتى خولة هنا وكأنها إسقاط روائى على محاولات الكتاب والمثقفين الكويتيين فى التوثيق للتراث وصراعات التاريخ والوجود بالكتابة التاريخية المباشرة أو الروائية، فى حين يستخدمه البعض للهروب من الواقع وتشويه الماضى، لكنهم فى حقيقتهم صورة من تخبطات خولة، نتاج طبيعى لشتات هذا الجيل متمثل فى ثلاثة أبناء.