يتبيّن من النتائج المترتبة على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والتطهير العرقى ضدّ الفلسطينيين، وعلى المواجهة المفتوحة بين إسرائيل وإيران، أن الدولة اليهودية تواجه ورطة كبيرة فى التشكيلين النزاعيّين المتوازيين المتقاطعين، وهى ورطة تعكس أيضا خسارة للولايات المتحدة فى مقابل مكاسب لإيران لا شكّ فيها. وثمّة دلالة واضحة فى هذا السياق لكلام بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلى عن دوافع حكومته لوقف العمليات الحربية فى لبنان وإبرازه حجّة التفرّغ للاستعداد لمواجهة إيران النووية. وتُشير تحقيقات جيوسياسية دقيقة إلى وجود أسباب عدّة وراءها خسارة إسرائيل أوّلها أنّ جيشها العائد إلى قطاع غزّة بعدما أخرجه آرييل شارون من «كيس العقارب» هذا، يغرق اليوم فى مستنقع يصعب الخروج منه وذلك لغياب أى أُفق سياسى إسرائيلى أو تصوّر لحلٍّ فى «اليوم التالى» لحرب الإبادة التى جعلت القطاع مكانا غير قابل للحياة. أمّا السبب الثانى، فهو أن الإسرائيليين فى محاولتهم ترميم الردع يتمسّكون بأسلوب «Escalation dominance» أى السيطرة بالتصعيد وهذا يعنى أنهم إذا تعرّضوا لضربة فإنهم يردّون على الطرف المواجه بأقوى منها لتحقيق السيطرة بالتصعيد. غير أن وقائع العدوان على لبنان تؤكّد أن إسرائيل فقدت السيطرة بالتصعيد لقدرة حزب الله والمقاومة اللبنانية على الردّ بالمثل بفضل ترسانة صاروخية فاعلة ومسيّرات هجومية، ما يؤدى إلى إضعاف الردع الإسرائيلى فى التحليل النهائى. ولوحظ فى عملية تبادل الردود بين إيران وإسرائيل فى أبريل الماضى، أنه لم يكن هناك سيطرة إسرائيلية بالتصعيد بالنظر إلى الحاجة إلى مساعدة أمريكا لإسقاط الصواريخ والمسيرات الإيرانية. وفى المواجهة الدائرة مع المقاومة والمجتمع المدنى الفلسطينى فى قطاع غزّة، يتأكد أن الفاعلية الإسرائيلية فى تدمير القرى والمدن والبنية التحتية، غير ممكنة من دون تدفّق السلاح والذخائر الأمريكية وتأمين المساعدة اللوجستية. كلّ ذلك يعيدنا إلى موضوع الردع الإسرائيلى الذى بات ضعيفا إلى درجة تستدعى التدخل العسكرى الأمريكى الذى ظهر بوضوح ردّا على هجوم أكتوبر الفلسطينى، وكذلك على الهجوم الإيرانى على إسرائيل فى أبريل الماضى. حتى السابع من أكتوبر 2023 وانقلاب التوازن رأسا على عقب فى منطقة الشرق الأوسط، كان فريق نتنياهو يعتقد أنه قادر على إدارة الصراع فى قطاع غزّة بفضل موقف حركة حماس الرافض لخيار الدولتين، وهو اتّبع فى لعبة التناقضات الفلسطينية خيار حماس ضدّ محمود عباس رئيس سلطة الحكم الذاتى الذى يلتزم خيار الدولتين للتسوية الفلسطينية، ويُعتبر بالتالى تهديدا لاستراتيجية «إسرائيل الكبرى» التى يعتمدها نتنياهو وحلفاؤه فى تيّار الصهيونية الدينية. ما حصل فى 7 أكتوبر أن قيادة حماس نفّذت بالتعاون مع قوى فلسطينية أخرى هجوما قلَبَ حسابات نتنياهو وكسَرَ التوازن بين تل أبيب وإدارة غزّة، فضلاً عن تهديد عقيدة الأمن القومى لإسرائيل ولجَمَ حركة التطبيع العربية معها. ولم يكن أمام حكومة نتنياهو إزاء النجاح الخارق الذى حقّقته حركة حماس سوى شنّ هجوم كبير على قطاع غزة بسحق حماس واستعادة الأسرى الذين وقعوا فى قبضة المقاومة الفلسطينية خلال الهجوم على المستوطنات والمعسكرات فيما يسمى «غلاف غزّة»، أما الهدف الحقيقى للهجوم الإسرائيلى، فكان تهجير سكان غزّة بعد جعلها غير قابلة للحياة عبر تدمير المساكن والبنية التحتية والنظام الصحى والتعليم. الأبارتهايد والتطهير العرقى إذا نظرنا اليوم فى سيناريو «إسرائيل الكبرى» التى تضم الضفة الغربية وقطاع غزّة، أى فلسطين التاريخية «من النهر إلى البحر»، فإننا نرى تعادلا ديموغرافيا بين السكان الفلسطينيين العرب بين (7,5 مليون) والمستوطنين اليهود (7,5 مليون). ولصنع «إسرائيل الكبرى» يتعين الخروج من دولة الأبارتهايد أو الفصل العنصرى عن طريق اعتماد التطهير العرقى باعتباره حلا يخلّص الصهاينة من الفلسطينيين. وفى حال اعتماد التطهير العرقى لطرد الفلسطينيين، فإن نتنياهو وحلفاء فى اليمين المتطرّف، قد يحلّون مشكلة الفصل العنصرى أو الأبارتهايد ويتخلّصون من حركة حماس فى آنٍ معا. ولم تنفكّ إسرائيل منذ العام 1948 عن ممارسة التطهير العرقى عبر عمليات الطرد والاقتلاع وتهجير السكان الفلسطينيين، وما تفعله حكومة نتنياهو اليوم فى قطاع غزة، يجرى من دون تحديد الهدف السياسى أو الحل السياسى النهائى، الأمر الذى يشكو منه جنرالات الجيش الإسرائيلى الذين يعتبرون أن نتنياهو لا يرسم أفقا لما بعد توقف القتال. والحقيقة أن نتنياهو لا يريد إدارة جديدة لغزّة، بل تطهيرا عرقيا كاملاً عبر القضاء على كتل سكانية كبيرة وجعل البيئة غير قابلة للعيش، واعتماد سلاح الجوع والتجويع لدفع الفلسطينيين إلى الخروج من القطاع. والأهم من ذلك، اعتماد حرب الإبادة الجماعية عقب الفشل فى جعل التطهير العرقى ينجح فى إخراج الناس من غزّة، ولذلك فإن الأوضاع تزداد سوءا يوما بعد يوم. خلاصة الموقف أنّ إسرائيل تبدو عاجزة عن هزم حماس أو القضاء عليها، وهى لم تنجح فى استعادة الأسرى، كما أنها غير قادرة على تنفيذ عملية التطهير العرقى بفضل الصمود البطولى للأهالى. إذن، إنّ إسرائيل تواجه مشكلة كبرى فى غزة، فضلا عن المشكلة مع حزب الله الذى قرّر التضامن مع فلسطين والوقوف عملياً إلى جانب المقاومة الفلسطينية فى غزّة، وكانت النتيجة أن حرب الإسناد اللبنانية أفضت إلى خروج ما بين 70 إلى مائة ألف مستوطن يهودى من شمال فلسطين تحت نيران المقاومة اللبنانية والانتقال إلى وسط إسرائيل على أساس ظروف مؤكدة. وليس معروفا ما إذا كان اتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل سوف يسمح لهؤلاء المستوطنين بالعودة. يضاف إلى ذلك القوة النارية الناتجة من «محور المقاومة» الإقليمى فى العراق واليمن والتى يُفترض أن يُحسب لها حساب فى الحصار المضروب حول إسرائيل. تبقى المسألة المتمثلة فى كون إسرائيل لا يمكن أن تعيش فى ظلِّ دولة أبارتهايد أو فصل عنصرى، كما كانت الحال فى جنوب إفريقيا، ولذلك يتعيّن عليها الاندفاع فى خيار التطهير العرقى، وهذا الخيار أيضا يواجه الفشل عمليا. إسرائيل وإيران من جهة أخرى، كانت إسرائيل تدفع فى اتجاه الحرب مع إيران بينما كانت الولاياتالمتحدة تريد تجنّب تصعيد التوتر والاشتباك، وهذا كان أيضا خيار الإيرانيين حتى أبريل الماضى، وذلك على الرغم من الاعتداءات المتكرّرة على مستشارى الحرس الثورى الإيرانى فى دمشق واغتيال زعيم حماس إسماعيل هنيّة فى قلب العاصمة طهران. وحدث التحوّل فى الحرب الباردة بين تل أبيب وطهران فى مطلع أبريل عندما هاجمت إسرائيل مقرّ السفارة الإيرانية فى دمشق، وعندها قرّرت القيادة الإيرانية الردّ على إسرائيل متجاوزة المخاطرة بالذهاب إلى مواجهة شاملة من شأنها أن تُفيد نتنياهو. وعشيّة تنفيذ الردّ العقابى الإيرانى فى 14 أبريل، عملت الإدارة الأمريكية مع السلطات الإيرانية عبر وسطاء لكى يكون هذا الردّ محدودا وتبقى واشنطن على اطلاع على التوقيت الإيرانى للردّ. وهكذا تمّ التنسيق بين الأمريكيين والإيرانيين لكى يقتصر الردّ على هدفين عسكريين. ولضمان عدم خروج العملية عن السيطرة، أقيم خط اتصال ساخن بين واشنطنوطهران عبر سلطنة عُمان. وفى الوقت نفسه التزمت الإدارة الأمريكية بعمق الدفاع عن إسرائيل، وشاركت فرنسا وبريطانيا وألمانيا والأردن فى الهجوم المضاد على عاصفة الصواريخ الباليستية والمسيّرات الإيرانية التى كانت تستهدف مواقع داخل إسرائيل. وتبيّن لاحقا أن نصف الصواريخ الإيرانية أسقطها الأمريكيون بفضل بوارجهم وقواعدهم فى المنطقة. عندما جاء وقت الردّ الإسرائيلى فى 19 أبريل، عملت الإدارة الأمريكية طويلا على احتواء المطالب الإسرائيلية بالتعرض للمنشآت النفطية والنووية. وفى النهاية ارتضت إسرائيل باستهداف رادار واحد تابع لبطارية S300 فى أصفهان، وتُرك المجال الإعلامى مفتوحا للبروباجندا الإسرائيلية للادّعاء بأن النظام الدفاعى الإسرائيلى حقّق نجاحا كبيرا. لكن القصّة لم تنتهِ عند هذا الحدّ، لأنّ تصريحات مسئولين عسكريين ومدنيين إيرانيين تُفيد يوميا بوجود تصميم على شنّ هجوم ثانٍ على إسرائيل ينتظر اتّضاح اتجاهات إدارة ترامب فى السياسة الخارجيّة. كاتب وصحفى لبنانى