ليست مشكلة غزة، لكنها مشكلة التبلد الذى ران على العالم العربى، بحيث صار يتذرع بالانقسام لينفض يده من القضية الفلسطينية وهى تصفى، ناسيا أنها إذا ضاعت ضعنا جميعا. (1) لماذا لا تسمح إسرائىل لسكان غزة باستيراد البقدونس؟ كان ذلك عنوانا لمقالة كتبتها صحفية محترمة هى أميرة هاس فى صحيفة «هاآرتس» يوم الجمعة الماضى 7/5. وعبرت فيما كتبته عن الدهشة والسخرية من قرار غريب أصدرته الحكومة الإسرائيلية بمنع إدخال البقدونس مع بعض المنتجات الأخرى إلى غزة (شملت القائمة الكزبرة والمربى والحلاوة والكمون واللحم الطازج والفاكهة المجففة. وسلعا أخرى مثل ألعاب الاطفال والدفاتر والصحف وشفرات الحلاقة).. وفى نفس العدد كتب جدعون ليفى منتقدا يهوديا شهيرا حائزا جائزة نوبل هو ايلى فيزيل، ومستغربا منه دعوته إلى استمرار احتلال الضفة الغربية، ومتمنيا عليه أن يطالب الرئيس أوباما بالتشدد مع الدولة العبرية، لا بالتراخى معها كما هى الحال الآن. لم أجد فى صحفنا المصرية صدى للقرار الإسرائيلى الأخير بتوسيع نطاق الحصار لكى يشمل البقدونس والكزبرة والمربى... إلخ، لكن وجدت أن صحيفة «الأهرام» أبرزت على صفحتها الأولى يوم الاثنين 3/5 خبرا تحت عنوان يقول: حماس تبتكر ضرائب على زيارة المرضى والذهاب للبحر فى غزة. وتحت العنوان تقرير تحدث عن قائمة الضرائب والرسوم التى فرضتها حكومة حماس على سكان القطاع ووصفت بأنها «إتاوات» و«غريبة». وختم بالاشارة إلى أن «هذه الاجراءات (جاءت) نتيجة للسيطرة على شبكات الانفاق من الجانب المصرى، ومواجهة المهربين الذين كانوا يستخدمون الانفاق فى تهريب الأموال والبضائع من مصر إلى قطاع غزة». المقابلة بين الموقفين تكشف عن مفارقة محزنة ومخجلة، فما نشرته «هاآرتس» يفضح الحصار ويدين الاحتلال، أما ما نشره الاهرام فلا ذكر فيه للحصار والاحتلال، لكنه يعبر عن الشماتة فى حكومة حماس التى أضطرت فى العام الثالث للحصار لأن تفرض على الناس ضرائب جديدة لتسير عجلة الحياة فى القطاع، وفى الوقت ذاته اعتبر التقرير أن هذه الضائقة بمثابة «إنجاز» تحقق جراء الجهد المصرى لاغلاق الانفاق (لم يشر إلى دور السور الفولاذى الذى أقيم باتفاق أمريكى إسرائيلى). يضاعف من الحزن والخجل اننا جميعا وقفنا متفرجين، فى حين أن إحدى المنظمات الحقوقية الإسرائيلية هى التى تحركت، فتوجهت بطلب إلى المحكمة العليا احتجت فيه على قرار حظر ادخال السلع السابقة الذكر، وطلبت الاطلاع على المعايير التى يتم على أساسها اتخاذ قرارات من ذلك القبيل، لكن السلطات تذرعت فى ردها بالأسباب الأمنية التى لم تشأ أن تفصح عنها (الحياة 8/5)، لكن صحيفة «هاآرتس» نشرت تحقيقا صحفيا تحدث عن دراسة اجريت لتحديد الحد الأدنى المطلوب لكل فرد فى القطاع، شملت قوائم بكمية الوحدات الحرارية والجرامات التى يصرح بها لكل مواطن وفقا للسن والجنس، وأغلب الظن أن هذه الدراسة تم الاعتماد عليها فى تحديد كميات الأغذية التى يسمح بدخولها، بحيث يبقى الجميع عند حدود الكفاف، ولا يسمح لهم بأى نمو طبيعى. (2) الغريب أن كل ما تفعله إسرائيل فى الفتك بالفلسطينيين وتصفية ملف القضية لم يعد يحرك شيئا فى الدول العربية الرئيسية، فالحصار صار مقبولا ومؤيدا. فى هذا الصدد لا أحد ينسى تلك الواقعة المشينة التى ذكرها أمير أورن المعلق العسكرى لصحيفة «هاآرتس» فى تقرير أرسله من بروكسل ونشرته الطبعة العبرية للجريدة فى 2/12/2008، وذكر فيها أن وزير خارجية لوكسمبرج طلب من وزيرة الخارجية الإسرائيلية (وقتذاك) تسيبى ليفنى بعد كلمة ألقتها أمام وزارة خارجية حلف الناتو برفع حصار غزة، وفتح المعابر الحدودية لأن الأوضاع الإنسانية فى القطاع بالغة الصعوبة، فما كان من السيدة ليفنى إلا أن طلبت من وزير الخارجية المصرى أحمد أبوالغيط أن يشرح للوزراء لماذا ينبغى أن يستمر معبر رفح مغلقا، وكانت المفاجأة أن الرجل ايد موقفها، وقال إن المعبر يجب أن يغلق «لدواع قانونية»، مشيرا إلى أن ذلك ما تفرضه اتفاقية المعابر الموقعة فى عام 2005 بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل والاتحاد الأوروبى. المخجل (لاحظ أننا غارقون فى الخجل طوال الوقت) أن مراسل الصحيفة أمير أورن ذكر أنه بينما قال أبوالغيط هذا الكلام، فإن ممثل الخضر فى الاتحاد الأوروبى دانى كوين بنديت (يهودى) هو الذى ندد فى الاجتماع بسياسة القمع الإسرائيلية ضد الاطفال الفلسطينيين. أيضا لم يعد الاحتلال محللا للاستنكار ولا الحصار بطبيعة الحال. وعلى الملأ جرت عملية إقامة الجدار الفولاذى من حول غزة لإحكام الحصار، ولم يعد أحد يخجل من قيام الملحق العسكرى الأمريكى بتفقد عملية البناء، ولا من توجيه اللوبى الصهيونى فى الولاياتالمتحدةالأمريكية الذى تمثله منظمة إيباك التحية لمصر على قيامها بتلك الخطوة «الشجاعة». أما تهويد القدس والاستيلاء على بيوت العرب وهدم عشرات المنازل فى حى الشيخ جراح واقتحام المسجد الاقصى، واستمرار الحفر الذى يهدد اساساته، هذه كلها اصبحت اخبارا عادية يقرؤها الناس بهدوء ولا مبالاة فى صحف الصباح، مثلها فى ذلك مثل اخبار التمدد الاستيطانى السرطانى وتهويد الضفة الغربية واقامة السور العازل وسرقة الآثار الإسلامية وعمليات التصفية والاعتقال التى تتم بصفة دورية، وتضيف اعدادا جديدة إلى العشرة آلاف معتقل فلسطينى الموزعين على السجون الإسرائيلية. هذه الممارسات التى تتواصل بصفة يومية، وتؤدى إلى تآكل القضية الفلسطينية وطمس معالمها، لم يكن لها أى صدى من جانب الأنظمة العربية، هذا إن استثنينا البيانات البلاغية والتصريحات الصحفية الخجولة التى تطلق بين الحين والآخر من باب ستر العورة وذر الرماد فى العيون. وبشكل عام، بوسعنا أن نقول إن الممارسات الإسرائيلية برغم ما اتسمت به من وحشية وفظاعة، لم تؤثر بالسلب على العلاقات القائمة بين إسرائيل والدول العربية، سواء كانت العلاقات رسمية ومعلنة أم سرية وغير معلنة، ومن المدهش أن تلك العلاقات بدأت تنمو وتتوسع، إذ فضلا عن التمدد الإسرائيلى فى شمال افريقيا والعراق، فقد اكتشفت ان ثمة زحفا اسرائيليا حثيثا على دول منطقة الخليج فالأخبار متواترة عن وجود العشرات من الجنرالات الإسرائيليين السابقين، وضباط الموساد يقومون بالتدريب الأمنى وإدارة بعض الشركات فى عدة دول خليجية (هاآرتس 18/9/2009) كما اننى سمعت ذات مرة من دبلوماسى أمريكى تعبيره عن الأسف لقتل محمود المبحوح القيادى بحركة حماس فى دبى، لا لشىء سوى أن العملية أثرت سلبا على «العلاقات الوثيقة» التى تربط بين إسرائيل ودولة الإمارات العربية. وقد استوضحته حين فوجئت بكلامه، فأعاد الرجل العبارة على مسامعى، وبدا مستغربا لأننى لم أكن أعلم بذلك! فى الوقت ذاته فإن تلك الممارسات لم تحل دون أن يقوم بنيامين نتنياهو رئيس وزراء العدو بزيارة إلى مصر يلتقى خلالها مع الرئيس مبارك، ويقضى معه 90 دقيقة، وبعد العودة يصرح بنيامين اليعيزر وزير التجارة الذى رافقه لراديو إسرائيل بقوله إن الاجتماع كان «رائعا» وتصل به الوقاحة إلى حد وصف الرئيس المصرى بأنه «كنز إسرائيل الاستراتيجى» وهو الوصف الذى تمنيت أن تحتج عليه مصر، لكن ذلك لم يحدث. (3) حين وضعت السلطات المصرية العديد من العقبات أمام قافلة «شريان الحياة» التى حملت المساعدات إلى قطاع غزة فى آخر ايام شهر ديسمبر الماضى، كان لتلك الاخبار وقع الصدمة على الاتراك، الذين كانوا مشاركين فى الحملة بممثلين عن البرلمان والحكومة وفى زيارة أخيرة لتركيا وجدت انهم يعدون لحملة إغاثة أخرى خلال الصيف تضم 8 سفن وحدثنى بعضهم عن دهشته وحيرته ازاء تفسير ما جرى فى المرة الماضية، قائلين انهم سيتجنبون المرور بالموانئ المصرية فى المرة المقبلة حتى لا يتكرر ما حدث من قبل. وقالوا فى هذا الصدد إن اعدادا غفيرة من الأتراك حين سمعوا بالعراقيل التى وضعتها السلطات المصرية أمام حملة شريان الحياة، خصوصا حين ذاعت بينهم أخبار عن تعرض الشرطة المصرية للمشاركين فيها، فإنهم أحاطوا بالقنصلية المصرية إلى استانبول وهددوا باقتحامها إذا ما تعرضت عناصر الحملة للاعتداء. مثل هذا الغضب المختلط والدهشة شائع فى أوساط الناشطين فى العالم الإسلامى ولدى وسائل عديدة معبرة عن تلك المشاعر أتلقاها عبر «الإيميل» من إندونيسيين وماليزيين وباكستانيين خصوصا ممن يدرسون فى أوروبا، مما يحير هؤلاء أيضا أن جهود الاغاثة ودعوات المقاطعة الاكاديمية والفنية أو مقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية نشطة وظاهرة فى الدول الغربية، فى حين انها تتراجع وتخفت بمضى الوقت فى العالم العربى. الملاحظة المهمة الجديرة بالرصد فى هذا السياق أن العالم العربى فى السنوات الأخيرة يزداد ابتعادا عن القضية الفلسطينية واقترابا من إسرائيل، فى حين أن الرأى العام الغربى والأوروبى بوجه أخص يزداد وعيا بحقائق القضية وابتعادا عن إسرائيل وقد ظهر ذلك بشكل واضح عقب العدوان الإسرائيلى على غزة الذى فضحه وأدانه تقرير القاضى جولدستون على الصعيد الدولى، فى حين تستر عليه فى حينه الرئيس الفلسطينى محمود عباس وساعد إسرائيل على الإفلات من الإدانة بسببه، كما لم تأخذه الحكومات العربية مأخذ الجد. لم يقف الأمر عند حد تراجع أولوية القضية وتقدم مسيرة التطبيع باسم ذرائع مختلفة، وإنما بدا أن تفكيك القضية والتفريط فى ثوابتها أصبح أمرا ميسورا ومقبولا فثمة شبه توافق الان على إمكانية التنازل عن الأرض بدعوى تبادل الأراضى، بحيث تبقى المستوطنات كما هى وتستأثر إسرائيل بالأرض الزراعية ومصادر المياه، وتعطى السلطة الفلسطينية مساحات مقابلة لها فى صحراء النقب. وثمة تركيز واهتمام بالسلطة والدولة أكثر من الاهتمام بالأرض التى هى جوهر النزاع وثمة اقرار بالتنازل عن حق العودة والحديث الآن جار حول المقابل والبديل. وثمة شبه اجماع بين الدول العربية ورجال السلطة فى رام الله على إدانة المقاومة واتهامها (تلك مشكلة غزة الحقيقية) الأمر الذى أفرز وضعا غاية فى الغرابة بمقتضاه تم التنسيق الأمنى بين السلطة وبين إسرائىل لملاحقة المقاومة وإجهاض عملياتها. (4) الأعجب والاخطر مما سبق هو ذلك التغيير الذى تلوح بوادره فى الافق العربى، وبمقتضاه تختفى صورة العدو الإسرائيلى، لكى تصبح إيران هى العدو الجديد. صحيح أن اسرائيل ما برحت تروج لذلك الادعاء (وهو أمر طبيعى) لكن الغريب فى الأمر أن بعض الاطراف العربية صدقته وصارت تروج له بدورها. آية ذلك اننى قرأت فى صحيفة «الشرق الأوسط» (عدد 13 ابريل الماضى) أن تجمعا عالميا شهدته العاصمة السعودية الرياض جدد التحذير من خطر برنامج التسلح الإيرانى الذى تحيط أخطاره بالمنطقة باسرها، وخرجت التحذيرات تلك من خلال بحوث متخصصين فى الطاقة النووية عددا من أوجه الاخطار النووية فى ظل الأوضاع الراهنة التى تدور فى المنطقة وايد لقاؤهم وجود خطر واضح فى البرنامج النووى الإيرانى، الذى (يؤثر سلبا) على منطقة الخليج وتوازن القوى فى المنطقة، وفقا لآراء المتخصصين وقد لاحظت أن هذه الندوة نظمها أحد مراكز البحوث السعودية بالتعاون مع مركز ستيمسون الأمركى، ومن المصادفات اننى دعيت لمناقشة الموضوع فى احدى المحطات التليفزيونية المصرية، ولكننى اعتذرت وقلت لمعد البرنامج الذى اتصل بى اننى لا امانع فى المشاركة فى حالة ما إذا بدأنا بالحديث عن السلاح النووى الإسرائيلى لسبب جوهرى هو أن ما يخص ايران هو احتمال يشيعه الامريكيون والإسرائيليون، أما السلاح النووى الإسرائيلى فهو حقيقة مسكوت عليها. حيث يطل المرأ على الساحة العربية من علٍ، يجد أن العالم العربى يساق ذاهلا ومستسلما فى طريق رسمه الأمريكيون ليس فقط لتصفية القضية الفلسطينية وتمكين إسرائيل من تحقيق ابتلاع فلسطين ومحوها من الخريطة لينفتح الطريق بعد ذلك لاخضاع العالم العربى بأسره. وهى الجائزة الكبرى التى ينتظرها الطرفان على أحر من الجمر. إننا نساق إلى الانتحار بخطى حثيثة.