في منزل بسيط يعبق برائحة الطين ودفء العائلة، تجلس الحاجة فاطمة علي محمد، المقيمة في نجع الملقطة بقرية أبو الريش بحري بمحافظة أسوان، كل صباح ممسكة بالقلم، يجاورها دفتر صغير كُتب عليه بخط يدها المرتجف: "أنا أتعلم"، حفيدتها آلاء، تحولت إلى معلمتها وأملها، تتلو عليها الحروف وتعيد معها الكلمات، وتُشجعها كلما تلعثمت أناملها فوق الورق. لم تكن الحياة سهلة؛ بين تربية الأبناء والعمل ، فضاع حلم الطفلة في أن تمسك كتابًا وتفك طلاسمه؛ لكن الحلم لم يمت، بل ظل حيًا داخلها، حتى قررت ذات صباح أن تعيش ما تبقى من عمرها بكرامة العلم. اليوم، لم تعد فاطمة مجرد جدة طيبة تروي الحكايات، بل أصبحت تكتبها، تكتب اسمها، وتقرأ آيات القرآن دون وسيط، وتبعث برسائل قصيرة لحفيدتها عبر الهاتف لأول مرة بالنسبة لها، لم يكن القلم مجرد أداة، بل مفتاحًا لحياة كانت مؤجلة. لم تكمل المرحلة الابتدائية وُلدت الحاجة فاطمة عام 1949، ونشأت في أسرة بسيطة، وكانت الفتاة الوحيدة بين أربعة إخوة، توفي والدها وهي في سن مبكرة، ولم تكمل المرحلة الابتدائية. بعدها، تزوجت مبكرًا، وانشغلت بتربية أبنائها التسعة، خمسة أولاد وأربع بنات. فتروي الحاجة فاطمة علي محمد ل " البوابة نيوز " والدي توفى وأنا لسه صغيرة، وما كملتش تعليمي، خرجت بدري من المدرسة ولم أكمل الإبتدائية، واتجوزت بعدها، وانشغلت ببيتي وأولادي، ورغم كل ده، عمري ما نسيت قد إيه كنت بحب التعليم، وكان نفسي أعرف أقرأ وأكتب،"وكنت بتمنى أكون محامية، وأقف أتكلم وأدافع عن الناس"، بس الفرصة ما جاتش وقتها". وتضيف الحاجة فاطمة "لما حفيدتي آلاء اقترحت عليا أتعلم، فرحت جدًا، حسيت إن الحلم القديم لسه ممكن يتحقق، وإن مافيش حاجة اسمها السن يمنعنا أننا نبدأ من جديد". وأوضحت الحاجة فاطمة جاء هذا اليوم أخيرًا والتحقت بفصل محو الأمية ضمن مبادرة "لا أمية مع تكافل" دلوقتي لما بقرأ آية قرآنية، بحس الدنيا كلها بتنور"، لأن "أكتر حاجة كانت بتوجعني إني مش عارفة أقرأ القرآن بس الحمد لله، دلوقتي بقدر أقرأ وأتواصل مع أقاربي من التليفون وأطمن عليهم"، وعرفت أستخدم الفيزا بنفسي. نفسي أروح أحج.. من زمان بدعي ربنا يكتبها لي وسط فرحتها بتعلم القراءة والكتابة، تبوح الحاجة فاطمة بأمنية طالما حملتها في قلبها سنوات طويلة، قائلة: "نفسي أروح أحج.. من زمان بدعي ربنا يكتبها لي، وأزور الكعبة قبل ما أمشي." وتختم كلماتها برسالة للأسر المصرية: "التعليم ملوش سن.. وأي بيت لازم يشجع كبار السن على التعلم.. إحنا نستحق نعيش حياة أحسن ونعرف نقرأ ونكتب حتى لو كبرنا". وتقول الحفيدة آلاء عصام، الحاصلة على دبلوم صنايع خمس سنوات – قسم حاسب آلي، تعمل وتعمل في حضانة لتعليم الأطفال، لكن شغفها الحقيقي كان في تعليم الكبار، وخاصة داخل برنامج "محو الأمية – تكافل" أنها بدأت رحلة التعليم مع جدتها في دورة يناير والتي استمرت حتى سبتمبر، قبل أن يتوقفوا قليلًا بسبب معاناة الحاجة فاطمة من ألم شديد في عينيها، خضعت بعده لعملية مياه بيضاء، لافتة "بعد ما تعافت جدتي، كملنا من تاني.. كانت مصممة تكمل وتتعلم"حتى نجحت في اجتياز امتحان محو الأمية. وأضافت لم تكن مجرد تجربة تعليمية، بل تجربة إنسانية نادرة، اختلطت فيها الدروس بذكريات الطفولة، والأبجدية بالحب لأن"جدتي كانت دائمًا بتحكي إنها نفسها تتعلم وأن تقرأ القرآن بنفسها، وتوقع اسمها دون الحاجة لبصمة، وعندما بدأنا الفصل، اقترحت عليها تيجي، وشجعتها، هي كانت متحمسة جدًا"وأنا حسيت إن ربنا اختارني أكون سبب في تحقيق حلمها وأرد لها الجميل، لافتة "كنت بدعمها بكل قلبي، وكنت فخورة بيها مع كل حرف كانت بتكتبه بإيديها"، مضيفة لما قلت لجدتي إنها نجحت، دمعت عنيها من الفرحة، وقالتلي: "الحمد لله... كنت فاكرة اليوم ده مش هييجي"، كانت فرحانة أوي، وحست إن مجهودها ما راحش هدر". وأشادت آلاء بدور وزارة التضامن الاجتماعي، موجه شكرها للوزيرة الدكتورة مايا مرسي، قائلة: "الوزارة قدمت لنا تدريبات مهمة عن كيفية التعامل مع كبار السن، وإزاي نعلمهم باحترام وصبر، وكان في دعم واضح لكل المشاركين وساعدنا نغير حياة ناس كتير. من جانبه، قال أحمد صابر، منسق مبادرة "لا أمية مع تكافل" ومدرب معتمد لتعليم الكبار بوزارة التضامن الاجتماعي، إن المبادرة تستهدف محو أمية المستفيدين من برنامج الدعم النقدي "تكافل وكرامة"، وبدأت في عام 2019 بالشراكة مع الهيئة العامة لتعليم الكبار. وأوضح أن المبادرة لا تكتفي بالتعليم فقط، بل تسعى لتوفير فرص عمل ورفع مستوى دخل الأسر، من خلال تدريب أبناء المستفيدين أو المستفيدات أنفسهم للعمل كميسرات (مدرّسات) داخل الفصول، كما فعلت آلاء مع جدتها. وأشار صابر إلى أن وزارة التضامن شكّلت فريقًا يضم 27 مدربًا معتمدًا لتعليم الكبار تحت إشراف الدكتور سمير الفقي مدير المبادرة، والمستشار عمر حمزة مستشار الوزيرة لشؤون تعليم الكبار، وتم إعداد منهج خاص تحت اسم "حياة كريمة" يتضمن دروسًا تجمع بين القراءة والكتابة، وقيم المواطنة والمساواة والصحة والتغذية السليمة. وأضاف: "الحاجة فاطمة كانت من الدارسات الملتزمات، وأكدت منذ البداية أن أمنيتها الوحيدة أن تتعلم لتقرأ في المصحف الشريف"، مشيرًا إلى أن امتحانها النهائي أُجري تحت إشراف فرع هيئة تعليم الكبار بمحافظة أسوان برئاسة صفاء عفيفي، ونجحت في اجتيازه. وأشاد اللواء دكتور إسماعيل كمال محافظ أسوان بالسيدة فاطمة على محمد 76 عامًا، والتى نجحت بإصرار وعزيمة فى قهر الأمية، وتحقيق حلمها بأن تقرأ وتكتب، لتكون نموذج مشرف نفتخر ونعتز به فى تحدى الصعاب، وتكون قدوة حسنة لأبنائنا من الشباب فى بذل قصارى الجهد لتحويل أحلامهم إلى واقع ملموس. وأكد محافظ أسوان على أنه تقديرًا من المحافظة سيتم تكريم الحاجة فاطمة على، لأنها تستحق أن نقدم لها لمسة وفاء عرفانًا بمسيرتها الناجحة فى تربية أولادها، وحرصها بجد وإجتهاد بأن تتعلم، وأن تجتاز إمتحان محو الأمية رغم تقدمها فى العمر. وأشار الدكتور إسماعيل كمال إلى أنه وفقًا لتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسى، يتم التنسيق بين الجهات والهيئات وقطاعات المجتمع المدنى لإستنهاض كافة القدرات وتنفيذ العديد من المبادرات الرسمية والشعبية للقضاء بشكل جذرى على الأمية. ولفتت إلى أنه يتم التحفيز والتشجيع من خلال فرع الهيئة العامة لتعليم الكبار لخفض معدلات الأمية والتى شهدت خلال العام المنقضى معدلات متميزة بمحو أمية 9860 ناجح، وتسليم 4059 شهادة محو أمية. وتجدر الإشارة إلى أن مبادرة " لا أمية مع تكافل " التى تنفذها وزارة التضامن الإجتماعى تحت إشراف الدكتورة مايا مرسى وزيرة التضامن الإجتماعى تستهدف محو أمية أسر برنامج " تكافل "، والتى كانت من بينهم أبنة أسوان السيدة فاطمة على محمد التى نجحت فى محو أميتها، وتعلم القراءة والكتابة.