أشعر أحيانا بأن الإمعان فى التحليل لمسيرات «السلام» المتعلقة بحقوق الشعب الفلسطينى آخذ فى التحول إلى تمرينات فى العبث، وكأن الحقائق الدامغة المتعلقة بما تقوم به «إسرائيل» والتواصل فى خرق الشرعية الدولية، والقوانين الناتجة عنها صارت بمثابة تشويش على «واقعية» مطلوبة، والتسليم بحتمية بقاء العدوانية «الإسرائيلية» بمنأى عن أى مساءلة أو عتاب، كذلك الأمر كون الإقرار ببديهيات مثل حق العودة للاجئين الفلسطينيين ثم عمليا تهميشه بمعنى لم يعد واردا، وأن المطالبة بقيام دولة فلسطينية على نحو 22 بالمائة من الوطن ثم الإذعان واعتباره تنازلا يجب الرضوخ إليه حتى لا ندمن على تفويت فرصة إنجاز ما، حتى وإن كان مبتورا ومكبلا بشكل فظ تنسحق فيه أبسط تجليات السيادة والحضور الوطنى الفاعل. ثمة إمعان فى التحليل والتأريخ ومن ثم التنفيذ للتشويهات وتزوير فاقع للحقائق والمعلومات المؤكدة التى تقوم بها «إسرائيل» وأنصارها يجابه من قبل واقعى النظام العربى السائد باعتبار أن ممارسة التفنيد تشويش على «المفاوضات» المباشرة منها وغير المباشرة كما أن الدعوة لحقوق الشعب الفلسطينى كاملة ومتطابقة مع بديهيات حق تقرير المصير تجعل «المستحيل» يلغى الممكن. إلا أن «الممكن» الذى صاغه قرار قمة بيروت عام 2002 أى انسحاب «إسرائيل» من الأراضى الفلسطينيةالمحتلة مقابل إنجاز مصالحة لا بين دولة «إسرائيل» القائمة فى نحوالى 78 فى المائة من فلسطين التاريخية بل بين الدول الأعضاء فى الجامعة العربية جميعها، إلا أن هذا الممكن الذى بدوره يعتبر غنيا يكاد بدوره وفى ضوء ما نشاهده من قضم متواصل للأراضى المحتلة منذ يونيو 67 ومن خلال الاستمرار أولا فى تهويد القدسالشرقية، ومن ثم الاستمرار فى التمدد الاستيطانى الذى تطالب إدارة أوباما تجميدها وتعتبره السلطة الفلسطينية شرطا مقبولا لاستئناف المفاوضات. أجل إن هذا النمط فى التعامل السائد مع مستلزمات القضية الفلسطينية بالوعى أو باللاوعى إجهاض لما تبقى من حقوق وطنية للشعب الفلسطينى. من هذا المنطلق لا يمكن استيعاب أى معنى لقرار إجازة السلطة الوطنية الفلسطينية عن التجاوب مع وفد الرئيس أوباما جورج ميتشيل رغم أن عملية تهويد القدس «تجميد الاستيطان» لم تتوقف، غريب أمر هذه الإجازة العربية وأغرب منها أنها تمت بطلب من رئيس السلطة محمود عباس الذى كان اشترط لاستئناف «التفاوض» المباشر أو غير المباشر. لماذا الاستغراب فى هذا الشأن؟ لأن وقف الاستيطان ينطوى على إسقاط خيار الضرورة الماسة لتفكيكها حتى يتم استقامة المعادلة التى تجعل التفاوض بديلا من التباحث الحاصل وبالتالى يكون التفكيك الدليل على أن «إسرائيل» سلطة محتلة وليست مالكة وبالتالى التفكيك يعنى أن الالتزام باتفاقيات جنيف الرابعة يصبح هو مقياس وشرط الانتقال من المباحثات الحالية إلى جدية المفاوضات. إذ نشير إلى تأكيد أرضية صالحة لمسيرة مفاوضات كون السيناتور ميتشيل الموكولة إليه إدارة المفاوضات غير المباشرة، لمدة تتراوح بين شهرين وأربعة أشهر قد لا تتحول إلى مفاوضات مباشرة بين المحتل والسلطة الفلسطينية، إذا لم يتمكن الموفد الرئاسى لأوباما انتزاع إقرار من «إسرائيل» كونها سلطة محتلة للضفة الغربيةوالقدسالشرقية فى المدة المحددة آنيا، عندئذ تبقى الدولة الفلسطينية المطلوب صيرورتها باقية فى المصيدة الخانقة التى أفرزتها اتفاقيات أوسلو، هذه الاتفاقيات التى استولدتها معاهدة الصلح بين مصر و«إسرائيل». من الواضح أيضا فى هذا الصدد توافق بدء العملية المسماة «المفاوضات غير المباشرة» التى يديرها جورج ميتشيل مع إقرار الرئيس أوباما الاستمرار فى فرض العقوبات على سوريا بحجة مدها حزب الله اللبنانى بأسلحة متطورة استنادا إلى حملة تحريض مكثفة قامت بها «إسرائيل» كون سوريا خرجت من عزلتها، وإن تعزيز علاقاتها مع تركيا، أدى إلى خطوة باتجاه تقليص متدرج للالتزام الأمريكى الذى يمخض «إسرائيل» التفوق الاستراتيجى على كل القوة العربية. صحيح أن هذا الالتزام هو من ثوابت السياسة الأمريكية فى «الشرق الأوسط» هذا ما يفسر أن التحريض «الإسرائيلى» على سوريا جعل من سوريا نقطة ارتكاز فى تصليب قوى المحالفة وبالتالى تعزيز مناعة عربية رادعة لسياسات وممارسات «إسرائيل» فى المنطقة. من هذا المنظور يتبين أن الإدارة الأمريكية من خلال تجاوبها النسبى مع استراتيجية «إسرائيل» إبقاء سوريا بعيدة عن ملفاتها فى المنطقة قد تكون أى «إسرائيل» أكثر استعدادا لعلاقة مع الموفد الأمريكى فى الشأن الفلسطينى بحيث يتمكن نتنياهو الادعاء أن «إسرائيل» مستعدة لأن تقدم “تنازلات أليمة” من جهة، والضغط فى الاستمرار بدفع اللوبى «الإسرائيل» (إيباك) إلى تكثيف توظيف الانتخابات النصفية المقبلة فى نوفمبر وسيلة لردع أى إلحاح من قبل الرئيس أوباما على ما يعتبره النظام الصهيونى «ضغطا غير مقبول» من البيت الأبيض، وبالتالى لا تكاد تنتهى مدة الأربعة أشهر «للمفاوضات غير المباشرة» التى يديرها ميتشيل حتى يتكرر التأجيل ريثما يتم انتخاب الكونجرس الجديد، السؤال هل سوف تجتمع اللجنة الوزارية الموكول إليها «مراقبة» النتائج وماذا ستفعل إذا لم تؤول إلى ما تعتبره نتائج مقبولة. يضاف إلى ما سبق وأشرنا إليه أن الجمعية العامة للأمم المتحدة بصدد مراجعة اتفاقيات منع إنشاء السلاح النووى والذى تغيب عنه «إسرائيل» ففى حين تركز الولاياتالمتحدة وحلفاؤها الغربيون على تعزيز العقوبات على إيران فإن إبقاء «إسرائيل» بمنأى عن المساءلة فى هذا الموضوع آخذ بالتحول إلى مشكلة علنية كونها تجعل ازدواجية المعايير أكثر وضوحا بعد سنوات من حذفها من بند للتداول والبحث والمعالجة. يضاف إلى ذلك أن استئناف «المفاوضات غير المباشرة» تنطلق وسط تعقيدات لكل من السلطة الوطنية الفلسطينية و«إسرائيل» فمن جهة يدعى المفاوض «الإسرائيلى» أن الرئيس محمود عباس «ضعيف» وبالتالى غير قادر على تنفيذ ما قد يتم الاتفاق عليه كما أن الانشطار القائم بين حماس وفتح يعززان أى خطوة ينجزها الموفد الأمريكى تبقى معطوبة فى فرص احتمال تحقيقها أكثر من ذلك، فما أشرنا إليه من توقع نهاية الأربعة أشهر أن ما يحققه الموفد الأمريكى لن تكون سوى إجراءات تخفيفية لن تمس جوهر ما يهيئ لقيام دولة فلسطينية بما تنطوى عليه الدولة من سيادة واستقلالية الإرادة ومؤسسات ضامنة لأمنها الوطنى ولأمان مواطنيها. ليس من مجال إزاء هذه الإشكالية التى يفاقم إخطارها العجز المطلق انتزاع إقرار «إسرائيلى» بضرورة التقيد بقرارات الشرعية الدولية حيث تبقى بدعة «المفاوضات غير المباشرة» بدعة ضامنة لتداعيات اتفاقيات أوسلو.المطلوب بل المرغوب أن تكذبنى «المفاوضات غير المباشرة» التى بدأت بالأمس.