في عام 1972 بالعاصمة بيروت أغتيل الكاتب والصحفي الفلسطيني الأشهر غسان كنفاني، في واحدة من عمليات الموساد التي تبناها للانتقام من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين خاصة عقب عملية مطار اللد التي قتل خلالها 26 إسرائيلي عام 1972. ظن الموساد بذلك أنه أسكت صوت من أهم الأصوات التي حدثت العالم عن القضية الفلسطينية ودعمت حركة المقاومة الفلسطينية خلال الفترات المضطربة التي عاشها الوطن العربي، وكان ذلك من خلال كافة الأسلحة التي استطاع كنفاني أن يحوزها وكان أبرزها صوته وقلمه. ظل قلمه يكتب العديد من المقالات بكل لغة يتقنها، وبصوته الذي كان يدوي في كافة البرامج الإذاعية والتليفزيونية يناقش ويتفاوض على كل شيء إلا حق العودة والسيادة الفلسطينية الكاملة. كما كان هناك بعد آخر خلد غسان من خلاله المراحل التي مرت بها القضية والظروف التي عاشها المواطن الفلسطيني في ظروف مختلفة كالتهجير واللجوء منذ نكبة عام 1948 من خلال كتابة العديد من الأعمال الروائية والمسرحية التي ساهمت على صعيد آخر في تشكيل هوية الأدب الفلسطيني وتصدره المشهد الأدبي حتى الآن. ألف غسان كنفاني 18 كتابا تضم العديد من المقالات السياسية والثقافية التي كانت تدور دائما حول القضية الفلسطينية، وقد جمعت هذه الأعمال بالإضافة إلى الروايات في مجلد واحد وترجمت إلى 20 لغة حول العالم لتظل كلماته تدوي في فضاء العالم حتى الآن. آخر هذه الأعمال كانت ثلاث أعمال روائية غير مكتملة، كان قد شرع في كتابتها ولم يمهله القدر حتى يكتب نهاياتها، جمعت هذه القصص في كتاب واحد بعنوان العاشق. وكأن القدر شاء أن يوافق فكرة غسان وخط سير حياته حتى النهاية، فقد رحل كنفاني والقضية مازالت دون حل قاطع كما عاش وأراد حتى لحظته الأخيرة، بل كان أغتياله بهدف أن تهدأ القضية أو لعل أصحابها يخشون القتل فيتبعون الصمت منهاجا، كما جاءت القصص مشتعلة بالأحداث والنضال الذي لم ينتهي، وذلك ما سوف نكتشفه من خلال قراءتنا خلال الأسطر التالية لهذه الروايات الثلاث في نسختها الصادرة عن منشورات الرمال. العاشق تبدأ الحكاية من مدينة ترشيحا حيث يقف قاسم بين الخيل حائرا أين يذهب والمدينة بل الوطن بأكمله محاصر من الإنجليز الذين ينهبون الأرض ويخدشون الصخور بحثا عن الثوار، وقد كان هو واحد منهم بل كان أبرزهم، وزادته الأقدار شرف بالخصومة مع الضابط الإنجليزي الكابتن بلاك الذي استطاع عبدالكريم الفكاك من قبضته ليكمل نضاله في مكان آخر في حادثة شهيرة شهودها العيان أهل مدينة عكا وصخورها وخيولها أيضا ومن تلك الحادثة تحول من عبدالكريم إلى قاسم. لم يفقد الكابتن بلاك الأمل في أن يجد عبدالكريم يوما ماثلا أمامه ليقتله بيده بعد أن يلقي به بين أسوار السجن ويشفي غليله منه الذي استمر لأشهر طويلة كللته بالعار من قبل دولته، فكيف يستطيع فتى فلسطيني أن يتخلص من قبضته المسلحة؟! في هذا الجزء يلقي غسان بذكاء المناضل والروائي الضوء على نقطة هامة، وهي أن المغتصب لا ينسى ثأره حين يهرب منه المناضل، فكيف يطالبون الثوار من أصحاب الأرض ورجال المقاومة أن ينسوا قضيتهم؟! بل ظلوا لسنوات يعملون على إخماد ثورة الشعب الفلسطيني والقضاء بل واقتلاع بذرة المقاومة فيهم فلا يستطيعون، فتعود جذوة الثورة لتشتعل من جديد والبذرة تطرح أجيال جديدة أكثر صلابة ويقين بالنصر من سابقيهم ولعل ما نشهده منذ أشهر طويلة في غزة خير شاهد على ذلك. خلال رحلة بحث الكابتن بلاك المضنية لم يتخفى قاسم بل كان يتحرك بكل حرية تحت العديد من الأسماء المختلفة التي عرف بها وجاء بها غسان كدليل على أن المقاومة الفلسطينية لها وجه وهدف واحد مهما اختلفت الأسماء من بلدة إلى أخرى ومن جيل إلى جيل. لسوء الحظ وكدليل قاطع على أن القضية لن تنتهي بهذه البساطة سقط قاسم في يد الكابتن بلاك، لكن كان الأخير قد أصبح أكثر ضعفا ويأسا عن ما كان والأول أكثر بأس وصلابة والشاهد على ذلك لحظة لقائهم! كما نوهنا في المقدمة فهذه الحكاية بلا نهاية لكن لها دلائل عديدة ومعاني سنظل نبحث عنها وفيها حتى يتحرر قاسم ورفاقه من أبنائنا في فلسطين الذين يمثلهم قطاع غزة الآن، أحد هذه المعاني هو أسم القصة، العاشق، فقد كان قاسم عاشق لوطنه وللحق في المقاومة والعودة ومن ثم السيادة الكاملة للفلسطينيين على أراضيهم، وكان الكابتن بلاك عاشق لأوامر جيشه الإنجليزي ومن يدعمونه، ولكن أكل العاشقين سواء؟! هناك فارق بقدر الهوة بين السماء والأرض بين عاشق الدم واغتصاب الوطن، وبين العاشق الحق ورفاقه عشاق الوطن. برقوق نيسان
في هذه القصة يضعنا غسان أمام حقبة هامة من تاريخ المقاومة الفلسطينية التي طالما تعرض أصحابها ومن ثم أهاليهم للتضييق إلى حد عزوفهم عن الأعتراف بهوية أبنائهم من الشهداء حين كانت قوات الجيش الإسرائيلي تستدعيهم للتعرف عليهم، ففي ذلك فرصة للتنكيل بهم وحرمانهم من دفن أبنائهم، لكن هل استسلمت المقاومة ورجالها لذلك؟! وكيف تحايل الأهل والأصدقاء على هذه الألاعيب؟! تكمن الإجابة في حكاية أبو القاسم، ذلك الرجل الكهل الذي يحمل باقة من ورود البرقوق إلى سعاد، واحدة من سيدات المقاومة التي كان ضمن دورها التواصل مع أهل الفدائيين وصرف رواتب لهم ورعاية من أستشهد زويهم وتركوهم بلا سند ولا رعاية تحت بطش قبضة الإحتلال التي تتبعهم أينما ذهبوا، فهم يعلمون أكثر منا أن بذرة المقاومة لا تموت، والعائلة التي تقدم اليوم شهيد، تقدم غدا مئات المناضلين ومن ثم الشهداء. في واحدة من زيارات أبي القاسم ل سعاد يصدم برجال الجيش الإسرائيلي يسيطرون على منزلها، ويضعون الكمائن والفخاخ لكل من يطرق باب شقتها حتى من أهل الحي، وإذا بمن يعرف حقيقة نشاطها ومن لا يعرفه يتحدون في حمايتها وإنكار كافة التهم التي توجه إليها وتعطيل القوات الإسرائيلية حتى تستطيع هي الفرار إلى مدينة أخرى تكمل فيها نضالها الذي بدأ ولم يتوقف. كان أبو القاسم أكثر الحاضرين تعرضا لتهكم ضباط الجيش بباقة الورود التي يحملها، وبصمته ونظراته الحائرة بين الحاضرين وجهله التام بما يحدث وبما يحاك خلف الأبواب، وبالرغم من ذلك استطاع أن يؤدي دوره هو الآخر دون قصد، لكنه سبق وقد قام بدور آخر في حماية المقاومة عن قصد حين أنكر أن الجسمان المسجى أمامه هو جسد ابنه قاسم ووقع على وثيقة مفادها أن أي شخص يحمل هوية ابنه في أي مكان يقوم بعمل نضالي سوف يعرض هو الآخر إلى العقاب، فاستطاع بذلك أن يحمي بقية رفاق قاسم وتضليل قوات الجيش في تتبعهم. وحيث ثقف أحداث الحكاية يلقي غسان الضوء على نقطة هامة، ألم يحمينا كبارنا بقصد ودون قصد منهم حين علمونها هوية الوطن وقيمته؟ وحين حمل كل منهم مفتاح بيته كدليل على عودة أكيدة لا محالة؟ ألم يحمينا كبارنا بحماية التراث وحكاياته وحكايات الأجداد من المناضلين وبنائين المدن والقرى؟! وحين علمونا أن من لا يملك تراث لا يملك وطن؟! فالكيان الصهيوني استطاع أن يؤلف العديد من الحكايات الكاذبة، ولكنه لم يستطع أن يخلق تراث كالذي نمتلكه وحملته ملامح كبارنا. بين حكاية العاشق وبرقوق نيسان لا يخلق غسان فارق في الموضوعات التي يسلط الضوء عليها فقط، بل يحدث طفرة أخرى في أسلوب سرد الحكايات تحول إلى أبرز أبطالها، ففي حكاية العاشق كان أسلوب السرد المتعدد الرواة هو البطل الأساسي، وتتجلى قوته في أنك تلمح ثلاثة أشخاص يتحدثون عن نفس المشهد في صفحة واحدة دون أن ينوه الكاتب قبل أن تبدأ الفقرات السردية بذلك، بل أنت من يتعرف على هوية من يتحدث من خلال المحتوى ووجهة النظر التي يتبناها الراوي. أما في برقوق نيسان تتجلى البطولة السردية في الهوامش التي زينت صفحات الحكاية بالعديد من المعلومات التي صيغت بأسلوب قصصي، فحين تتبع هذه الهوامش تتحول هي الأخرى إلى حكاية منفصلة بذاتها عن الحكاية الأصلية لكنها تثريها وتضيف إليها، فالحكايات الفلسطينية أوجه مختلفة لعملة واحدة. الأعمى والأطرش
يسلط الكاتب من خلال حكاية عامر وأبوقيس أبناء طيرة حيفا الذين لم يلتقي أي منهم بالآخر إلا في المخيمات، على دور وكالات الغوث الدولية المعنية بشؤون اللاجئين والتي عاش المواطن الفلسطيني تحت رحمتها لسنوات في معاناة بعيدة كل البعد عن الأهداف التي تتبناها تلك الوكالات ومن يدعمونها. يعاني كل من عامر وأبوالقيس من فقدان حاسة من حواسهم، عاش كل منهم يحاول الشفاء من هذا الفقد واستعادة هذه الحواس دون طائل بالرغم من طرقهم كافة الأبواب التي كان آخرها زيارة قبر أحد الأولياء الذين ذاع سيطهم وشهرتهم بالقدرة على شفاء الناس، ولكن هل هناك دواء لمن فقد وطن فودع الأمان إلى الأبد؟! يستطيع عامر وأبو القاسم أن يكشفون زيف هذا الولي، وأن الناس يروجون لكرامات ولي ليس له وجود من الأساس، ولكن هل يصدقهم أحد؟! وهذا السؤال ما حال بينهم وبين الإعلان عن زيف هذا الولي. لكنك حين تمعن النظر تكتشف أن رد الفعل العنيف من الناس ما هو إلا نتاج ضعف وقلة حيلة، فما هو سلاحهم في مقابل الخذلان المتتالي من العالم حولهم سوى الإيمان بالمعجزة حتى وإن كانت أصولها مبنية على الخرافة؟! ألم يقل شاعرنا عبد الرحمن الأبنودي أنه لا حيلة للمحتاج غير أنه يقعد مستني، يا تنفك الضيقة، يا يموت وتموت حوجته معاه! وهكذا كانت الأسر الفلسطينية في مواجهة اللجوء لكنهم لا يستطيعون الجلوس هكذا ومواجهة المعاناة اليومية في طوابير تحصيل الماء والغذاء ومواسم الحصول على الكساء في صمت، لابد أن يكون هناك أمل فكان أملهم ذلك الولي وشجرته ومعجزة لم تحدث ولكنهم ينتظرونها. لكن غسان لم ينسى أن يسلط الضوء على أن للخرافة أتباع يحمونها كي يظل الناس عبيد لها وهذه علة أوطاننا. كما جاء بعنوان الحكاية للتدليل على أن الحق الفلسطيني والقضية واضحة إلى حد أنها لا تحتاج إلى سمع أو بصر، فحين يدعي البعض خاصة الحكومات والهيئات العالمية أنها لا تسمع ولا تبصر، فهل يستطيعون إنكار الإحساس بما يعانيه شعبنا يوميا؟! للأسف يخبرنا الأمر الواقع الآن أنهم استطاعوا لكن الشعب الفلسطيني لم يمل النضال. كما يؤكد على نقطة هامة، فكيف تنتهي ويلات هذا الشعب إذا كان العمى والطرش منا وفينا؟! من رجالنا الذين عينتهم تلك الوكالات العالمية كواجهة لها يتحكمون في حقوق اللاجئين يوميا ويغضون البصر والسمع عن ما يحدث وما يشاهدونه يوميا، فكل ما يعنيهم أن تملأ الفراغات أمام الأسماء وأن يسجل أسماء المفقودين بدقة كي يفسحوا المجال لغيرهم، وتجلى ذلك داخل الحكاية فيما حدث بين مصطفى موظف الإغاثة وزينة إحدى اللاجئين! وبتتابع الحكاية يشير غسان أيضا أن البعض حين تشتد الأزمة يتمنى لو يفقد القدرة على الرؤية والسمع، وقد يكون ذلك من فرط الضعف وقلة الحيلة، وضياع الإرادة ومن ثم اليأس وهم كثر حول العالم. ووسط معاناة اللجوء في تلك الفترة لم ينسى غسان أن يسلط الضوء على الخلاف الذي اشتعل بين الناس حول الحل السياسي بالتفاوض وبين قوة السلاح. على أعتاب هذه الحكاية نكتشف بطل آخر وهو السرد من خلال الحوار الداخلي للأبطال الذي يسلط غسان من خلاله الضوء على أبعاد القضية الفلسطينية ووجهات النظر التي اختلفت فيها وعنها وحولها، وكيف يفكر المواطن الفلسطيني في قضيته وما يعتمل في عقله وصدره من أفكار يوميا حول معاناته؟! وسرعان ما نكتشف بطل آخر للأحداث، البطولة المجهولة من خلال شخصية الأم التي لم يذكر أسم لها ووضعها في موضع الذكرى خلال السرد، لكنك تستطيع الآن عزيزي القارئ أن تراها في المرأة الفلسطينية الغزاوية بالتحديد التي يقف العالم يرصد معاناتها اليومية ويتعجب من قوتها وقدرتها على تحمل نيران الفقد التي لم تنطفيء يوما منذ السابع من أكتوبر الماضي، كما كانت هذه البطولة غير المحددة بالاسم والملامح رمز لكل من حمل القضية على عاتقه حتى أنفاسه الأخيرة، هي غسان نفسه، العاشق، زهرة برقوق نيسان التي قطفها الاغتيال فظل عبيرها يعطر أنفاس كل مؤمن مدافع عن القضية الفلسطينية حتى الآن وإلى الأبد.