مات محمد عابد الجابرى.. مات أحد أهم العقول العربية فى وقتنا الحاضر.. مات أحد أفضل من تعامل مع التراث الدينى، وحاول أن يشعل لنا شمعة وسط الظلام الدامس الذى نتخبط فيه. لسوء الحظ فإن كثيرين فى مصر ومعظم العالم العربى لا يعرفون هذا المثقف الفيلسوف الذى رحل عن دنيانا صباح أمس الأول الاثنين فى الدارالبيضاء عن عمر يتجاوز 75 عاما.. لكن لحسن الحظ أن أمثال هذا المفكر المغربى الكبير يظلون بيننا بكتاباتهم وأفكارهم التى إن آجلا أو عاجلا ستجد طريقها إلى عقول الجميع. الجابرى له أكثر من 30 كتابا متنوعا فى الفكر والتراث والدين والفلسفة، كلها مهمة وأصيلة، لكن كثيرين يجمعون على ان أهم كتبه هو «نقد العقل العربى» الصادر فى أربعة أجزاء، وكذلك توطين العقل العربى، إضافة إلى كتابه الصادر قبل 4 سنوات بعنوان «مدخل إلى القرآن الكريم»، واعتبره مشروع عمره لأنه حاول فيه فهم وتفسير القرآن بما يؤدى ويقود إلى رؤية جديدة ومختلفة.. تفسير لا يركز على الدعوة فقط أو الأيديولوجية والنظرة الأحادية. كان الراحل يقول عن نفسه ان مهتمه هى «عداوة الجهل».. ولذلك كان طبيعيا ان يختلف معه ويعارضه غلاة العلمانيين وغلاة المتطرفين الدينيين، لأن منهجه فى النهاية كان يهدم الأسس الرئيسية لهذين المعسكرين المتحدين فى الرؤية رغم تناقضهما الظاهرى. لكن ما الذى يدعونا للكتابة فى هذا المكان عن شخصية فلسفية مثل الجابرى؟ الإجابة باختصار لأن المشروع الفكرى الرئيسى للجابرى كان هو «نقد العقل العربى»، الذى يركز فى القضايا الصغيرة وترك النقاش فى القضايا الحضارية الكبرى، وابتكر مصطلح «العقل المستقيل»، واصلا إلى نتيجة أخيرة مفادها ان العقل العربى يحتاج اليوم إلى إعادة بعث وابتكار من أجل ايجاد عقل ناهض، ومن دون ذلك فلا أمل لأى تقدم. الجابرى أغضب البعض حينما طرح للنقاش قبل 4 سنوات ان هناك رؤى تقول ان بعض سور القرآن الكريم تعرضت للاختصار قبل عملية جمع القرآن مثل صورة الأحزاب، مستندا إلى حديث للسيدة عائشة تقول فيه ما معناه إن سورة الأحزاب نزلت فى 200 آية وعندما توفى الرسول وانشغل الجمع بالحدث، دخلت شاة وأكلت جزءا كبيرا منها، فلم يبق فيها إلا 73 آية. لكن الجابرى أغضب كل العلمانيين حينما قال ان الدين ينبغى ألا يطرح كشىء يمزق الهوية، وانه لا يمثل مشكلة إلا عندما تكون المجتمعات منقسمة دينيا ومذهبيا وطائفيا. فى ردود بعض القراء على نبأ وفاة الجابرى فى المواقع الإلكترونية لفت نظرى ردان.. الأول قارئ يرى أنه هاجم الدين وسيلاقى مصيره المحتوم، والثانى لقارئة كانت تتخيله.. مسلحا بإبرة ينحت بها وبصبر لا مثيل له صخرة صماء قاسية مثل قسوة الشعور بالفقدان. وبالضبط تلك هى مشكلتنا.. التطرف.. إما معا أو ضد، لكن عظمة الجابرى رحمه الله انه لم يستسلم، ولم يبع عقله للآخرين، مات الجابرى.. ولم يبق على المراود إلا شر البقر!