للأسف بعد حوالى ثلاثين سنة من الإبادة غير المسبوقة فى تاريخ مصر خصوصا السنوات العشر الأخيرة لنعمة الأشجار والتى زينت وجملت شوارعنا وطرقاتنا وحدائقنا، أشجار بعضها تعدى الألف سنة من العمر تم ازالتها لصالح الإنشاءات الأسمنتية وللأسفلت ولملايين الإعلانات ذات الأحجام المهولة والمتراصة على مسافات متقاربة على كامل أجناب المحاور والشوارع والطرقات، لتشكل تلوثا بصريا غير مسبوق فى حياة بشر اليوم. وحتى اليوم هناك تقارير كثيرة عن عمليات إزالة مستمرة بشكل مؤسف، ومتناقض لبنود الدستور الخاصة بحماية بيئة صحية للمواطنة والمواطن المصرى، وبعد أكثر من خمسين سنة من البناء على الطين مصدر الإنتاج الزراعى الأساسى لحياتنا مع التقليص غير المسبوق لكامل المساحات الخضراء على أرض مصر، وتشويه كل ما هو جميل. أخيرا، تنبه أعضاء مجلس الشعب ومسئولو الحكومة منتصف شهر يونيو من العام الحالى 2024 لهذه الكارثة والتى عرت أرض الوطن أمام الزحف المميت للتغيرات المناخية التى حاول المخلصون من خبراء البيئة التنبيه لمخاطرها وتوابعها المؤكدة ووضعوا سبل المواجهة والحد من مخاطرها منذ عام 1995، وللأسف قوبلوا بالسخرية والاستخفاف ورغم ذلك داوموا بوطنية وإيمان وبتصميم على التنبيه والإنذار عن طريق كل الوسائل الإعلامية وفى المؤتمرات والمحاضرات دون جدوى، فتحقيق المكاسب المادية من كل هذه المخالفات الجسيمة كان أقوى وأشرس وأهم من جهودهم الوطنية. اليوم أكتب عن أطول حياة لكائن على وجه الأرض، حياة تتعدى الخمسة آلاف سنة، أكتب عن الشجر. الشجر الذى له مكانة عظمية ومحترمة لدى معظم شعوب العالم، فهناك مثلاً اليابان والولايات المتحدةالأمريكية وهما يحتفلان سنويا بتفتح زهور الكرز ويتسابق المواطنون والمواطنات للتنزه أسفلها وحولها والتقاط الصور وتصوير الأفلام فهى رمز للجمال ومناسبة مبهجة ينتظرها الجميع بشغف شديد. ودول أعلنت محميات طبيعية لمساحات تضم أشجارا نادرة وجميلة. ••• الشجر هو نبات معمر ذو ساق أو جذع واحد تتفرع منه فروع على ارتفاع من الأرض تكسوها أوراق وزهور.. كانت كل الطرقات والشوارع التى كانت دائما تظهر فى أفلام السينما قبل الخمسينيات محاطة بالأشجار المزهرة الجميلة على أجنابها مثل شارع الجبلاية أمام النادى الأهلى والذى كان مغطى بأفرع شجر البوانسيانا ذات تيجان الزهور الكثيفة الحمراء اللون رائعة الجمال. أبدأ مقالتى هذه بتسجيل نبذة مختصرة عن أشجار مصر والتى للأسف لا يعلمها معظمنا وأبدأ برمز من رموز مصر، أبدأ بشجرة الجميز أو شجرة التين الأحمر وهى من الفصيلة التوتية وثمارها وجدت بمقابر الفراعنة وقد لقب المصريون القدماء هذه الشجرة ب (نهت) وقدسوها، واليوم أقدم شجرة جميز بمصر توجد بالمطرية شمال القاهرة وتلقب بشجرة مريم فهى الشجرة التى ظللت السيدة مريم العذراء وطفلها سيدنا المسيح عليهما السلام عند لجوئهما لمصر. جذع الجميز مجعد مغضن وهى مستديمة الخضرة تحمل ثمارها على فريعات قصيرة ومن خشبها صنعت توابيت الفراعنة ويصنع منها السفن والمراكب. وهى رمز من رموز مصر تذكر فى العديد من القصص والأساطير والأغانى الشعبية. وكان الحفاظ على الأشجار ورعايتها من شروط دخول الجنة عند الفراعنة. • • • أنتقل لتسجيل معلومات عن بعض الأشجار الجميلة والمنتشرة بحدائق مصر الخاصة وما تبقى من العامة وبصحاريها وهى أشجار آمل نشر الجميل منها على أجناب شوارع مصر الرئيسية وداخل المدن، هذا إذا سمحت أجهزة الدولة بإضفاء لمسة جمال لها وبهجة. الفتنة من الأشجار الجميلة حقا إذ أزهارها عبارة عن كرات صغيرة صفراء لها رائحة عطرية تزهر فى الشتاء والربيع، تتحمل الحرارة الشديدة والجفاف. ذقن الباشا اللبخ لسان المرأة ارتفاعها 16 مترا، أزهارها تتفتح أوائل الصيف، لونها أخضر مائل للاصفرار ذات رائحة عطرية عندما تتعرض للرياح، تصدر قرونها المحتوية على البذور أصوات تشبه ثرثرة النساء. شجرة التين البنغالى أو الأثأب أو الفيكس البنغالى وهى الشجرة الضخمة القادمة من الهند والتى تخرج من أغصانها جذور دعامية هوائية كثيرة تتدلى منها وعند بلوغها التربة تخترقها وتتضخم لتشبه الجذوع، وهى موجودة بقصر محمد على بمنيل الروضة وبحديقة الزهرية حيث توجد شجرة ضخمة وسط قلب الميدان المؤدى لبرج القاهرة وجذورها الهوائية منتشرة على أجناب الطرق الأسفلتية المحيطة بالميدان والسيارات تخترقها. شجره المخيط والتى منذ آلاف السنين كانت تستخدم المادة المخاطية المستخرجة من ثمارها فى صيد العصافير لمقاومة توابعها السلبية على مخزون الحبوب والزراعات وذلك بتغطية فروعها بهذه المادة وعندما تحط عليها العصافير تلتصق بها ولا تستطيع الطيران وبالتالى يتم الإمساكبها. شجره المرجان تزهر فى الربيع وزهورها الجميلة تشبه أصابع اليد ولونها أحمر. الجكرندا أزهارها بنفسجية زاهية توجد على شكل باقات كبيرة أو نورات تزهر فى الربيع قبل ظهور ورقها الأخضر. شجرة الماجنوليا مانوليا زهورها بيضاء عطرية يصل قطرها 15 سم تزهر صيفا وهى أكبر الزهور فى مصر. شجره الصفصاف أم الشعور أو الصفصاف الباكى ارتفاعها عشرة أمتار تنتشر على حواف الترع والبرك والقنوات. شجرة البرونيا أزهارها حمراء كثيفة رائعة الجمال. شجرة كاليندا (ذقن الباشا الزينة) ذات الزهور المستديرة وردية اللون طوال الربيع والخريف والشتاء. فرشة الزجاج أزهارها حمراء سنبلية تشبه فرشة تنظيف زجاجات رضاعة الأطفال. خيار شمبر الخروبالهندى أزهارها صفراء ذهبية تخرج قبل الورق فى شهر مايو ويونيو فى عناقيد رائعة الجمال مثل عناقيد العنب يبلغ طول العنقود حوالى خمسة وأربعين سم وتلقب فى الخارج برذاذ الذهب. كاسياندوزا المنتشرة فى معظم الحدائق الخاصة زهورها البيضاء والحمراء تدوم لفترات طويلة طوال الصيف تشبه المظلة وهى من الشجر المفضل فى الحدائق الخاصة. شجرة كوريزيا البيضاء والمنتشرة عند شارع البحر الأعظم بجوار كوبرى عباس بالجيزة، الجزع مغطى بشوك سميك وزهورها بيضاء كبيرة الحجم.. هناك الأشجار المنتشرة بالقطاعات شديدة الجفاف على أرض مصر ومنها أشجا السنط الضخمة ذات الأزهار البيضاء المائلة للاصفرار وقرونها وأوراقها التى تتغذى عليها ماشية البدو والقبائل المنتشرة بصحارى مصر، وشجر السيال المعمر والمنتشر وسط وديان الجلف الكبير وجبل العوينات أقصى جنوب غرب مصر، وشجرة المرو ذات الخشب الصلب والتى لها أزهار بيضاء كبيرة الحجم وأوراقها يقبل عليها حيوانات الرعى. والشجرة النادرة والمهددة بالانقراض المدرجة فى قائمة الاتحاد العالمى لحماية التنوع الأحيائى وهى شجرة الأنبط التى توجد على مرتفعات جبل علبة داخل محمية علبة أقصى جنوب شرق مصر، يبلغ طولها خمسة أمتار ذات أفرع متشعبة تنتهى بتيجان من أوراق تشبه نصال السيوف وتتوزع أزهارها القرمزية فى تجمعات طويلة قائمة. أشهر حى فى مصر غنى جدا بتنوع رائع من الأشجار صمدت وتصمد أمام العديد من محاولات أجهزة الدولة تحت مسميات عديدة غير مقبولة وغير حضارية هو حى المعادى حيث صمدت أشجاره بفضل وعى أهل الحى وشراستهم فى حماية هذه الكنوز الطبيعية الجميلة، وهو ما دفعهم لتكوين جمعية محبى الأشجار والتى تضم شخصيات مرموقة حريصة على حماية البيئة ووقف التشوهات والقبح فى شوارع وطرقات الحى ونشاطهم اليوم امتد لأحياء أخرى بهدف نشر الجمال والخضرة والبهجة. * • • يمكننى تأكيد أن أضخم عمليات قطع وإزالة أشجار تحت مسميات متنوعة فى عواصم العالم تتم فى القاهرة، فالأسمنت والأسفلت والإعلانات الضخمة حلت مكان الحدائق والأشجار، وظاهرة التلوث البصرى أصبحت سائدة وتتفاقم. الشاعر والكاتب الصحفى فاروق جويدة كتب فى عاموده بجريدة الأهرام نهاية شهر مايو 2023: حين يفقد الإنسان الإحساس بالجمال فهو يفقد البصر والبصيرة، وحين ينسحب الجمال من حياة الناس يترك خلفه حشودا من العميان لأن الذى لا يرى الجمال إنسان أعمى.. إنه لا يفرق بين عصفور يغنى وعصفور يموت.. إن الجمال أكبر هدية قدمتها السماء للبشر .. ولك أنتتخيل النهر بلا ماء والحديقة عارية بلا أشجار.. والبيوت كتلا من الأسمنت. ووجوه الناس بلا ملامح. والحوار يشبه نعيق الغربان. والشمس أخذت إجازة. حين يغيب الجمال أشياء فى الحياة تتغير ولن يعود الإنسان إنسانا. بالأمس اكتشفت أن سرب العصافير الذى كان يسكن أشجار شارعنا اختفى فجأة واتضح أن شبحا آدميا تسلل ليلا وذبح الأشجار. أوائل شهر إبريل من عام 2022 ضربت عاصفة شديدة عدة أحياء بلندن بريطانيا وفى حى ريتشمان والذى يضم أكبر محمية غزلان بالجزيرة البريطانية كنت أتجول فى شوارع الحى وتوقفت أمام «يافطة» معلقة على سور حديقة خاصة واطلعت على مشمولها وترجمته (للأسف بسبب العاصفة التى ضربت المنطقة أوائل شهر إبريل من العام الحالى مالت شجرة أم الشعور العملاقة الصفصاف (عمرها70 سنة) والتى كانت تاج حديقتنا لتتسبب فى أضرار شديدة بجدار الحديقة وتهديد للممتلكات الواقعة خارج نطاق الحديقة، ما دفعنا استدعاء خبراء الأشجار ومسئولى الحى فى محاولة لإنقاذ الشجرة وإعادتها إلى وضعها السابق، لكن للأسف الجميع أعلن استحالة ذلك ووجوب إزالتها لتفادى أى توابع سلبية على المارة والسيارات بالشارع الملاصق للحديقة وهو ما تم للأسف الشديد مما سبب لنا حزنا لفقد هذه الجميلة التى كانت مصدر بهجة وجمال لأسرتنا). * • • العالم يتسابق حيال زرع ونشر ملايين وملايين الأشجار لمواجهة كارثة التغيرات المناخية وتوابعها المميتة والتى تقترب بسرعة عاما بعد عام للأسف.. ونحن نقوم بالعكس.. أدعو الله عز وجل أن يعيننا على إعادة نعمة الشجر والمساحات الخضراء والتى كانت منتشرة على أرض مصرنا.