ما يدفع إلى طرح هذا السؤال هو التناقض الظاهر بين التدوين المبكر للوثائق فى الحضارة العربية الإسلامية والكم المحدود من الوثائق الذى وصل إلينا من القرون العشرة الأولى فى التاريخ الإسلامى. فقد عرفت الحضارة العربية تدوين الوثائق فى المعاملات الرسمية للدولة منذ القرن السابع الميلادى (الأول الهجرى) مع ظهور الدولة الإسلامية فى عصورها الأولى، ومع ذلك فمن اللافت للنظر أن الأرشيفات العربية تفتقد إلى مجموعات أرشيفية تراكمت بشكل طبيعى فى أرشيف للدولة أو لمؤسساتها فى الفترات السابقة على العصر العثمانى، كما أن الوثائق العربية التى وصلتنا من الفترة الممتدة من القرن السابع إلى أوائل القرن السادس عشر الميلاديين (الأول إلى أوائل العاشر الهجريين) وصلت من خلال الكشوف الأثرية أو فى مجموعات بعيدة عن الأرشيف الرسمى للدولة، فهل يرجع ذلك إلى عدم إدراك الدول الإسلامية المتوالية لأهمية حفظ الوثائق الرسمية؟ بما يعنى غياب نظم لحفظ الوثائق فى الدولة أو وجود نظم أقل كفاءة مما ينبغى؟ أم أن هناك أسبابا أخرى أدت إلى ضياع عشرات الآلاف وربما مئات الآلاف من الوثائق؟ تشير المصادر التاريخية إلى أن عصر معاوية بن أبى سفيان قد شهد تأسيس ديوان الرسائل وديوان الخاتم، وكان الديوانان معا يتحملان مسؤلية إصدار وثائق الدولة وحفظها، وقد اندمجا بعد ذلك فى ديوان واحد تغير اسمه فيما بعد إلى ديوان الإنشاء الذى تجاوز دوره حدود تدوين الوثائق وحفظها، وفى مصر خصوصا لعب هذا الديوان دورا بارزا فى النظم المصرية منذ العصر الفاطمى. وحول هذا الديوان قال المؤرخ الراحل محمد عبدالله عنان: «وقد كان ديوان الرسائل أو ديوان الإنشاء فى هذه العصور مجمع المراسلات الداخلية والخارجية، فمنه تصدر الرسائل والمناشير والأوامر والتواقيع إلى الأمراء والحكام وكبار الموظفين، ومنه توجه الرسائل الخارجية إلى مختلف الملوك والدول التى ترتبط بمصر بعلائق سياسية أو تجارية، إذن فقد كان اختصاصه بتناول ما يسمى اليوم فى لغة السياسة الحديثة بنظم «البروتوكول» وهى عبارة عن الرسوم والإجراءات التى تجرى عليها الدولة فى تنظيم علاقتها الخارجية سواء فى إجراء المفاوضات السياسية أو فى عقد المعاهدات، أو مخاطبة الدول الأخرى، أو استقبال ممثليها ومعاملاتهم، أو فى تحرير المكاتبات الدبلوماسية، وكانت ومجموعة الرسوم والإجراءات التى تجرى عليها دول السلاطين المصرية فى هذا الميدان تعرف «بالمصطلح الشريف» أو هى تكون جزءا منه لأن «المصطلح الشريف» كان يشمل أيضا، فضلا عن رسوم العهود والمفاوضات ورتب المكاتبات السلطانية الداخلية والخارجية، على إجراءات إصدار المناشير والتوقيعات، إذن فالمصطلح الشريف يقابل فى عصرنا نظم البروتوكول تقريبا وكان لهذه النظم فى البلاط المصرى فى العصور الوسطى، أصول وتقاليد راسخة، تثير الدهشة، والإعجاب معا، بدقتها وروعة تنسيقها. وتكشف لنا مراسلات مصر مع الدول الأوروبية عن متابعة رجال ديوان الإنشاء لكل التطورات السياسية الداخلية فى هذه الدول». فى الحقيقة تدلنا المؤلفات التى خلفتها الحضارة العربية الإسلامية حول كتابة الوثائق والتى تعرف بكتب المصطلح الوثائقى على ما كان هذا الديوان يقوم به فى مجال حفظ الوثائق. وقد اهتم العرب والمسلمون منذ فترة مبكرة بالتأليف فى مجال المصطلح الوثائقى، فوضعوا عددا كبيرا من المؤلفات التى تعد مصادر رئيسية فى دراستنا للوثائق العربية العامة، ودراسة كتب المصطلح الوثائقى العام تقدم لنا صورة واضحة عن كيفية إصدار الوثائق العامة فى العصور الوسيطة، وعن المراحل التى تمر بها الوثيقة حتى تصدر فى صيغتها النهائية، وعن طرق حفظ صورها فى الديوان كما أن هذه المؤلفات تعرفنا بالمصطلحات المستخدمة فى ديوان الإنشاء، علاوة، وهى لذلك مصدر أساسى من مصادر دراستنا للوثائق العامة فى العصور الوسيطة. حيث تعالج كتب المصطلح الوثائقى موضوع الوثائق العامة التى صدرت فى العصور الإسلامية المختلفة بدءا من عصر النبوة، وتهتم هذه الكتب بجمع وتسجيل نصوص المكاتبات والوثائق العامة التى صدرت عن الرسول والخلفاء الراشدين وعن حكام المسلمين فيما بعد سواء أكانوا خلفاء أو سلاطين أو أمراء، وتتحدث هذه الكتب عن الوثائق العامة من حيث إخراجها، ومصطلحاتها، والألقاب والوظائف التى ترد فيها أو تتعلق بها، والجهات التى تحررها وتصدرها ومن أهم هذه المؤلفات: الاقتضاب فى شرح أدب الكتاب أو الرسائل والكتابة لعبدالحميد الكاتب، وكتاب أدب الكاتب لابن قتيبة، وأدب الكاتب للصولى، والصناعتين فى الكتابة والشعر لأبى هلال العسكرى ومواد البيان لعلى بن خلف وقانون ديوان الرسائل لابن منجب الصيرفى، ومعالم الكتابة ومغانم الإصابة لابن شيب القرشى، وكتاب المفتاح المنشأ فى حديقة الإنشاء لنصر الدين بن الأثير، وكتاب البرد الموشى فى صناعة الإنشا للموصلى، وكتاب حسن التوسل إلى صناعة الترسل لأبى الثناء محمود الحنبلى الدمشقى، وكتاب التعريف بالمصطلح الشريف لابن فضل الله العمرى، ثم كتاب صبح الأعشى فى صناعة الإنشا للقلقشندى، وكتاب تثقيف التعريف لابن ناظر الجيش. ومن الجدير بالملاحظة أن كثيرا من مؤلفى هذه الكتب التى نسميها بكتب المصطلح الوثائقى، والتى عرفت فى بعض العصور بكتب المصطلح الشريف، هم من كتاب ديوان الإنشاء وأن من بينهم من تولى رئاسة هذا الديوان مثل ابن منجب الصيرفى فى العصر الفاطمى وابن فضل الله العمرى فى عصر المماليك البحرية والقلقشندى فى عصر المماليك الجراكسة، لذلك فقد تحدثوا بإسهاب عن نظم ترتيب الوثائق وحفظها فى تلك العصور من واقع خبرة عملية. وتكشف كتابات ابن منجب الصيرفى والقلقشندى على وجه الخصوص كيف كان لدى الديوان نظام دقيق لحفظ الوثائق الواردة للخلفاء والسلاطين وترتيبها ترتيبا مبنيا على منطق يجعل من السهل استرجاعها عند الحاجة، وكيف كان لدى حفظة الوثائق فى الديوان بطاقات للفهرسة تتضمنا وصفا للوثائق ولمحتوها ولموضع حفظها داخل الديوان بطريقة تمكن العاملين فى الديوان من الوصول إلى الوثيقة عند الحاجة، كما أن الديوان كان يحتفظ بصور منسوخة من الوثائق الصادرة عنه ترتب وفقا للجهات الموجهة إليها تلك الوثائق، ويبدو مما ذكرته تلك المصادر أن نظم الحفظ والاسترجاع تلك كانت متطورة للغاية. وقد ورثت الحضارة العربية نظم حفظ الوثائق من الحضارات القديمة التى كانت قائمة فى المنطقة، فقد دلتنا الكشوف الأثرية على معرفة تلك الحضارات لنظم متطورة للحفظ الأرشيفى، وقد وصلتنا بالفعل أرشيفات مكتملة من العراق وسوريا ومصر من عصور الحضارات القديمة فى تلك البلدان. يبقى السؤال قائما، إذا كانت الحضارة العربية الإسلامية قد عرفت مثل هذه النظم فأين ذهبت الوثائق؟ ربما تسببت الحروب الداخلية وتعاقب الدول إلى ضياع جزء من هذه الوثائق، وربما تسببت الغزوات الخارجية فى ضياع جزء آخر، لكن النقطة الجوهرية تكمن فى غياب الوعى بأهمية حفظ الوثائق بهدف استخدامها كمصدر للدراسة التاريخية، فقد كان للوثائق وظائف قانونية إثباتية ووظائف إدارية أو سياسية، بانتفاء هذه الوظائف تنتهى الحاجة إلى الاحتفاظ بالوثائق، فذلك الوعى بأهمية الوثائق كمصدر للتاريخ لم يظهر فى العالم إلا مع ظهور الدولة القومية الحديثة، التى جعلت الأرشيف القومى مؤسسة من مؤسساتها.