هبة أبو ندى: شجر العائلات يتساقط كاملا.. وحلم غزة بلا حصار يتشكل فى الجنة هويدا الدريملى: نعيش أهوال يوم القيامة.. الموت فى كل مكان حولنا ولا نعرف متى الموعد المغارى: فقدت 22 من عائلتى فى هذا العدوان.. والله لا نهزم مسئول ب«الصحة الفلسطينية»: السمة السائدة هى التخدير الانفعالى والوجوم وحرب البقاء.. والصدمة لم تأتِ بعد «فى الجنة تتشكل الآن مدينة جديدة اسمها غزة، لكنها بلا حصار.. بلا عذاب.. بلا قصف.. بلا نفاق». كان هذا جانبا مما كتبته الروائية الفلسطينية هبة أبو ندى، عبر حسابها على موقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك» ضمن يوميات تخطها هى والكثير من الفلسطينيين رصدتها «الشروق» عن واقع حياتهم فى قطاع غزة تحت قصف إسرائيلى لم ينقطع منذ 37 يوما، قبل أن تنعيها وزارة الثقافة بعد استشهادها فى غارة على منزلها. تتواصل الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة نهارا لتقتل آلاف الأبرياء، وتحول قنابلها المضيئة ليلها إلى نهار، فى وقف يفتقد القطاع أبسط مقومات الحياة الأساسية من مياه نظيفة وغذاء ودواء ووقود بفعل الحصار الشامل عليه. فى غضون ذلك، تبقى مواقع التواصل الاجتماعى نافذة سكان غزة للعالم؛ لسرد يومياتهم تحت القصف والغارات غير المنقطعة، والتى لم تسلم منها حتى المستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء. لم تتوقف هبة أبو ندى، الروائية الفلسطينية التى كانت تدرس ماجستير التغذية العلاجية بجامعة الأزهر فى غزة، عن وصف معاناة أهالى القطاع منذ بدء الحرب الأخيرة، ورسم أجمل معانى الصمود تحت القصف، حتى تحول حسابها إلى دفتر عزاء للأهل والأصدقاء والجيران بمرور الأيام. شجر العائلات يتساقط كاملا فى وصفها لوحشية الاحتلال، تقول هبة، إن «شجر العائلات يتساقط كاملا لا فروعا، تهوى الشجرة بكل من فيها، بشكل مفجع.. تتحول غزة إلى مقبرة مفتوحة ممتدة من عتبة الجامعة العربية حتى منبر الأممالمتحدة، ونحن نحدق فى قبورنا بصمت وثقل وتسليم بالله». وتسترسل: قائمة الأصدقاء عندى تنكمش.. تتحول توابيت صغيرة تتناثر هنا وهناك، لا يمكننى إمساك أصدقائى وهم يتطايرون بعد الصواريخ، لا يمكننى إعادتهم من جديد، ولا يمكننى أن أعزى فيهم ولا يمكننى البكاء.. يارب ماذا نفعل يارب أمام وليمة الموت الضخمة هذه». غزة التى نحلم بها وعن غزة التى رسمتها فى مخيلتها، تضيف: «نحن فى الأعلى نبنى مدينة ثانية، أطباء بلا مرضى ولا دماء، أساتذة بلا ازدحام، وصراخ على الطلبة، عائلات جديدة بلا آلام ولا أحزان، وصحفيون يصورون فقط الجنة، وشعراء يكتبون فى الحب الأبدى، كلهم من غزة». وكأنها فى حلم تروى أحداثه، تلخص الكاتبة الفلسطينية أمنيتها: «فى الجنة تتشكل الآن غزة جديدة بلا حصار». وتستطرد: «إن قضينا فتلك شهادة شرف، وإن بقينا فلنروى الحكاية ونضع قصتنا فى عيون العالم أجمع وما بين هذا وذاك لنا طقوسنا فى البكاء والصبر والحزن والتذكر والأمل واليأس.. إن متنا قولوا بالنيابة عنا كان هنا أناس يحلمون بالسفر والحب والحياة وأشياء أخرى.. نحن تحت الطائرات والله أعلى منها ومنهم». صمود يدرس وعن صمود أهل غزة، تقول بعزة وفخر: «غزة فعلت أقصى ما يمكنها فعله فى مواجهة هذا الظلم، تجاوزت الخيالات وارتفعت عن سقف الممكن والمستحيل، حطمت كل التماثيل واللاءات واخترعت صمودا سيظل يدرس فى التاريخ، وينسب إلى غزة». وتقول إنه عندما تنسلخ الأكاذيب ويتساقط المنافقون، وتنهار الإنسانية الزجاجية على نفسها، والحديث لهبة، ستبقى غزة رمزا أسطوريا غير مفهوم وغير ممكن، رقما قياسيا لا يمكن للمدن والحضارات والجيوش تحقيقه إلا بزمان الأنبياء والمعجزات. «نحن فى غزة عند الله بين شهيد وشاهد على التحرير، وكلنا ننتظر أين سنكون. كلنا ننتظر اللهم وعدك الحق»، كانت تلك الرسالة الأخيرة لهبة، بعد أن تفاجأ متابعوها بنعى وزارة الثقافة الفلسطينية لها فى بيان بأن «الكاتبة قضت نحبها شهيدة نتيجة العدوان المستمر على قطاع غزة». لنخرج ونقتل جميعا مريم سمير صديقة هبة التى سبقتها فى الشهادة يوم 19 أكتوبر الماضى، كتبت عبر حسابها على «فيسبوك» قبل وفاتها بثلاثة أيام: «مانى مصدقة إنى عايشة للحين وما بعرف إذا بعد ساعة راح أضل عايشة، تعبت وأنا بشرد من مكان لمكان من مستشفى لشارع لبيت والقصف فوقنا». «نفسى أرجع لحياتى الطبيعية.. كاذب من يقول إن بيوتنا يناسبها أن تهدم، بيوتنا لم تصنع لهذا الدور»، قالتها مريم قبل أن يباغتها صاروح إسرائيلى أحال منزلها لركام، واستشهدت على أثره. رأيت كيف يكون يوم الحشر ووصفت هويدا الدريملى وهى مدربة تنمية بشرية وأخصائية اجتماعية، جرائم الاحتلال والواقع الذى يعيشه سكان غزة، بقولها: «الموت فى كل مكان حولنا، لا نعرف متى الموعد أو المكان، فنحن نعيش أهوال يوم القيامة، قبل قليل حصلت مجزرة بجانبى، ورأيت كيف يكون يوم الحشر». وعبرت رقية إخميس، برسالتها: «لنخبر العالم بأن غزة ليست تحت القصف، غزة أصبحت تحت الإبادة الجماعية»، محاولة الاطمئنان على أهلها وأصدقائها، بتغريدتها: «أصدقاؤنا الأحياء نتمنى أن تكونوا بألف خير، أخبرونا عنكم ولو بكلمة، وسامحونا إن قصرنا». ووجهت الغزاوية رسالة ذات مغزى لأهالى غزة، قائلة: على أهل غزة جميعا الخروج من بيوتهم، وتجمعاتهم إلى الساحات لنقتل جميعا.. نحن لا نريد تلك الحياة مع هذا العالم البشع.. أقسم بالله أننا اصبحنا نشعر بالخيانة لأننا مازلنا أحياء.. اقتلونا فى ضربة واحدة، دمروها مرة واحدة، واكتبوا سطوركم الأخيرة؛ أننا رفضنا النزوح وآثرنا البقاء وكانت هنا غزة تصرخ وحدها». مشاهد الإبادة.. عرض مستمر «مجزرة عائلتى»، وتحت هذا العنوان روى المواطن الغزاوى أحمد أبو ارتيمة عبر حسابه على «فيسبوك»، مشهد استشهاد ابنه حمود وعدد من أفراد عائلته يوم الثلاثاء 24 أكتوبر الماضى، فى قصة تشبه آلاف قصص الإبادة التى يمارسها الاحتلال الإسرائيلى. ويقول: وفق الحسابات المادية كان يفترض ألا أنجو.. ابنى عبود كان ملتصقا بى تماما، فقضى بينما بعثت من جديد إلى الحياة.. فقد كنت أجلس مع أطفالى الثلاثة فى الطابق الثانى من بيت عائلتى المكون من ثلاثة طوابق، فجأة غبت عن الوعى ثم استفقت بعد دقائق قليلة لأجد كل ما حولى ركاما ودخانا ونظرت إلى طفلى حمود وبتول فإذا هم يصرخون ويشيرون إلى جسد أخيهم عبود الممدد إلى جوارنا. كان الصاروخ الأمريكى، والحديث لأبو أرتيمة، الذى أطلقه طيار إسرائيلى قد استهدف المكان مباشرة وسقط على بعد أقل من مترين، استشهد عبود وابنة أخى الطفلة جود عشرة أعوام، وأمى الثانية زوجة والدى، وعماتى الاثنتان ابنة عمتى.. وعمتى التى استشهدت 85 عاما كنا قد أحضرناها إلى بيتنا بعد يوم واحد من استشهاد ابنها وأحفادها الثلاثة، واستشهد جارنا». ويتابع: أصبت أنا وأبنائى الاثنان وبقية أفراد العائلة الذين كانوا فى القسم الشرقى من البيت لحظة القصف.. ودمر البيت بالكامل، انتشلنا الناس من الأنقاض». تبت أياديكم.. هنا غزة وعلى نفس وتر الموت تعزف الطالبة ابتسام سامى شاهين: «فى غزة لم نعد نقول صباح الخير، استبدلناها ب«واو طلع نهار تانى على!». وتتابع: «أى انتصار ذلك الذى سيتباهى به الإسرائيلى ومن خلفه، انتصار الطائرة الحربية على مجموعة حوائط بيت يقيم به أفراد عاديون جدا، أم انتصار الدبابة على أطفال فى الشوارع ينقلون المياه الشحيحة من نقطة معينة إلى بيوتهم، أم انتصار الأباتشى على لقمة العيش!، أم انتصار الفسفور على امرأة حامل!، وانتصار القنابل على المستشفيات.. إنه انتصار قوى غير متكافئة، أى انتصار هذا وما المعنى الذى يحمله». وبنفس لهجة الصمود، توجه حديثها للاحتلال الإسرائيلى: «تبت أياديكم.. هنا غزة.. هنا الأمل والحب حتى لو قضيتم علينا ذرة ذرة، إن استطعتم». لكنها تعود لتقول: «ممكن عادى أقول نفسى بالتفاح!!». وتتابع فى مشاركة أخرى: «بنتى 7 سنوات سألتنى هو إللى بموت جوع أو عطش بالحرب يمه بكون شهيد؟». حيل البقاء لكن هناك أيضا من أبدع حيلا للبقاء والحياة وسط الجثث والركام، إذ تروى فاطمة عاشور جانبا من يومياتها على ما تبقى من كهرباء فى هاتفها الذى يعاد شحنه على لوح شمسى أو بطارية سيارة أو قابس كهرباء بمستشفى يعج بالمصابين، لتظل على تواصل بالعالم. وتقول: أمس نزلت خانيونس البلد لشراء ملابس ثقيلة، ما صدمنى هو رائحة الزيت المحروق، حيث يتم استخدامه بديلا عن السولار والغاز.. فالغزازوة بيحطوا زيت القلى فى تنك السولار عشان السيارة تشتغل، دا بيعمل تلوث شديد وبيمرض». ودفع انقطاع السولار والغاز بفعل الحصار الشامل الإسرائيلى المفروض على غزة، سائقى السيارات إلى ملء خزاناتها بالزيوت المستخدمة والمحروقة، لتشغيل محرك السيارة. وتصف حال النازحين اللاهثين لتبريد عطشهم بعد أن قطع الاحتلال المياه عنهم: هناك طوابير على المياه والخبز، كل المناظر محبطة فوق قدرتنا على الوصف أو التحمل مكنش فى أى حاجة تسر القلب غير إنى شفت هويدا الدريملى، وأصدقاء لنا، وتذكرت لو لثانية حياتنا الطبيعية». والله لا نهزم وعلى نفس الخط الذى يعكس استمرار الحياة فى غزة، يقول الصحفى هانى المغارى، عبر حسابه على فيسبوك: «فى غزة فقط الفطور على وقع صواريخ القسام»، حيث كان يجلس المغارى رفقة أصدقائه وهم يتناولون وجبة الإفطار فى أحد شوارع غزة ينظرون للسماء نحو صواريخ القسام التى أطلقت لضرب مستوطنات فى غلاف غزة. وأضاف: قبل قليل تزامن وفى نفس اللحظة صوت انفجار ضخم مرعب ومخيف مع صوت الله أكبر خلال رفع آذان المغرب بصوت ندى جميل، يبعث على الراحة النفسية والاطمئنان القلبى، ما هى إلا ثوان معدودة وقد تلاشى صوت الانفجار، وبقيت الله أكبر تصدح فى كل أرجاء غزة، كأنها رسالة من السماء مفادها أن عمر الظلم ومجرميه قصير وإلى زوال، وأن الغلبة للحق وأهله». وفى مشاركة أخرى يقول «والله لا نهزم»، جملة يفسرها بقوله: كنت دائما أتساءل فى كل فصول الصراع والعدوان على غزة السابقة، كيف يصبر ويقف شامخا منْ فقد واحدا أو اثنين أو أكثر من عائلته، حتى جاءت لحظة فى هذا العدوان فقدت فيها 22 من عائلتى من الدرجة الأولى. وفى مقدمتهم من فقدهم المغارى والده وأبناء عمه، «لم أشعر بنفسى حينها إلا وأنا أسجد لله حمدا على قضائه، وكلما اقترب القلب من الاشتعال حرقة على فراقهم خاصة أننى لم أتمكن من وداع أو إلقاء نظرة أخيرة ولو على واحد منهم، جاءت نفحة باردة أطفأت ناره وهدهدته فيهدأ». الصدمة لم تأتِ بعد وتشخيصا لواقع غزة من الباقين، أو النازحين من الشمال لجنوب القطاع بفعل القصف العشوائى، تحدث مدير دائرة خدمات الصحة النفسية بوزارة الصحة الفلسطينية الدكتور محمد أبو السبح، خلال وجوده بمركز إيواء بجنوب غزة بعد أن قصفت إسرائيل منزله بقنابل الفوسفور ما اضطره وعائلته لمغادرته. ويقول ل«الشروق»: «جميع سكان قطاع غزة بلا استثناء يعانون حالة من الصدمة الجمعية، فيما الحديث عن اضطرابات نفسية بالمعنى الاكلينيكى يعتبر من الرفاهية فى ظل حجم الدمار والقتل الموجود على أرض الواقع، ولا سيما أن الموت والدمار يتوقعه الأفراد فى كل لحظة». ويصف استشارى الطب النفسى والعصبى، ردود الأفعال التى تظهر عبر حسابات الغزاويين على فيس بوك، قائلا إن: «السمة السائدة هى التخدير الانفعالى والوجوم، أضف إلى ذلك حرب البقاء». وضمن تفسيره لردود الأفعال النفسية للمواطنين فى غزة، قال إن الجيل الحالى نشأ وترعرع وشهد 5 حروب وأصبح هذا الطبيعى بالنسبة له ويتوقعه، والتوقع يقلل من رد الفعل الصادم، ويزيد القدرة على الصمود لانه جزء من تركيب الشخصية أساسا». ووفقا لمشاهداته على أرض الواقع، فإنه لا مكان للشعور بالثكل والفقد؛ لأن غريزة البقاء تغلب خاصة الانشغال طيلة الوقت بالبحث عن مكان أقل خطورة، بل إن «الأهم أن النقص الكارثى فى المياه والغذاء ومقومات الحياة الأخرى خلق لدى الناس حالة من الصلادة النفسية والمواءمة والتكيف وليس أدل على ذلك من طريق النزوح من الشمال إلى الجنوب». الموت القاعدة والحياة استثناء ويؤكد أن «العنصر الأساسى للتحمل هو الوازع الدينى، فعندما يكون الموت هو القاعدة والحياة استثناء يكون أثر الصدمة أقل، مع استمرار القتل وبشكل جماعى أمام الأفراد يصبح الموت خبرا عابرا». ويرى أن «أهم ما يميز إضرابات الصدمة هى الأعراض الانشقاقية التى تزول بعد الحرب، وتبدأ الكارثة ويستيقظ من تبقى على الحقيقة المفجعة»، مردفا: «إيمان الناس بقدرة المقاومة ورغبتهم أن تنتقم لهم جعلهم ينتظرون الثأر والانتقام». وزاد: «فى الجنوب يعتقد الكثيرون أن الدور سيأتيهم ويهرب الجميع من التفكير فيما حدث.. نحن نتناسى ما حدث لبيوتنا وحياتنا ومستقبل أبنائنا؛ لنستطيع ممارسة حياتنا بشكل متأقلم لكن الكارثة النفسية ستأتى». المصير مجهول وبسؤاله عن السبيل لتجاوز ما يحدث، أجاب: بعد انتهاء الحرب نحتاج إلى خطة شاملة طبعا ومسح لكل سكان قطاع غزة للتعامل مع كل فئة حسب المطلوب، وحاليا لا مجال للمساعدة إلا من خلال جلسات التوعية الجماعية فى أماكن اللجوء. واستدرك قائلا: لكن بشكل واقعى وعملى لا مجال للمساعدة النفسية لأن الحاجة الأساسية هى المأكل والمشرب وهناك نقص يقترب من درجة المجاعة فيهما وهذا يشغل الناس عن الشعور بأى خطر آخر، وإذا توفرت فستشكل اكبر دعم نفسى ومن ثم الحاجة للأمان والأمل». ويؤكد: المصير مجهول والشغل الشاغل للناس إضافة لتدبير المأكل والمشرب، هو ماذا بعد؟ هل سيكون هناك تهجير أم تستمر غزة غارقة فى دمائها؟