توجه حوالي 74% من الناخبين الذين يتمتعون بحق التصويت في بولندا إلى مراكزالاقتراع يوم الأحد الماضي للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية، في أعلى نسبة إقبال على التصويت بالبلاد منذ سقوط الشيوعية في عام 1989. وشكلت نتائج التصويت مفاجأة، وتتجه المعارضة المؤيدة للاتحاد الأوروبي، بزعامة رئيس الوزراء السابق، ورئيس المجلس الأوروبي السابق، دونالد توسك إلى الإطاحة بحزب القانون والعدالة الذي تولى مقاليد الأمور في البلاد على مدار ثماني سنوات. ووصف الائتلاف المدني المعارض بزعامة توسك الانتخابات بأنها "الفرصة الأخيرة" لإنقاذ الديمقراطية في تلك الدولة التي تقع شرقي أوروبا، والعضو في الاتحاد الأوروبي.. ومن الواضح أن الإقبال الواسع النطاق على التصويت جاء استجابة لدعوة المعارضة. وفازت أحزاب المعارضة الثلاثة (الائتلاف المدني، والطريق الثالث، وحزب اليسار) بمقاعد كافية تمكنها من إنهاء فترة حكم حزب القانون والعدالة، القومي المحافظ، والتي شهدت خلالها العلاقات بين بولندا والاتحاد الأوروبي توترا واسعا. وقال توسك يوم الأحد: "هذه نهاية الأوقات العصيبة". • انتصار الديمقراطية والليبرالية وأكدت اللجنة الوطنية للانتخابات يوم الثلاثاء الماضي أن حزب القانون والعدالة كان صاحب الأداء الأقوى في الانتخابات، ولكن دون تحقيق الأغلبية، حيث فاز ب 38ر35% من إجمالي الأصوات، وهو ما ضمن له 194 مقعدا. وحل الائتلاف المدني الليبرالي، بزعامة توسك، ثانيا ب 7ر30% من الأصوات (157 مقعدا). وجاء حزب الطريق الثالث، المسيحي المحافظ في المركز الثالث ب 40ر14% (65 مقعدا)، وفاز اليسار، وهو تحالف يضم مجموعة أحزاب، ب 61ر8% (26 مقعدا). ونال الاتحاد الكونفيدرالي اليميني المتطرف 16ر7% من الأصوات (18 مقعدا). ورغم حصول حزب القانون والعدالة على نسبة أصوات أعلى من جميع المنافسين الآخرين، لا يملك الحزب مجالا للمناورة من أجل تشكيل تحالفات. وقاد الاتجاه العدواني الذي اتسم به حزب القانون والعدالة في البرلمان، والذي شمل مواجهات واستبعادات طالت الطيف السياسي بأكمله، إلى عزلة أيديولوجية. كما صعَّدَ الحزب من لهجة خطابه القومي أثناء الحملة الانتخابية، لدرجة أنه بدأ خلافا مع الجارة أوكرانيا، التي مزقتها الحرب. والشريك الواقعي الوحيد أمام حزب القانون والعدالة لتشكيل ائتلاف هو حزب الاتحاد الكونفيدرالي اليميني المتطرف، ولكن المقاعد التي فاز بها الأخير لن تكفي لتحقيق أغلبية حاكمة. كما أعلن الجانبان عدم رغبتهما في تشكيل مثل هذا التحالف. وأمام ائتلاف توسك، المعارض، طريق سهل لتشكيل حكومة، حيث الأغلبية البرلمانية في متناول اليد، وذلك بالدخول في ائتلاف مع الطريق الثالث واليسار. وسوف يتمتع ائتلاف الائتلافات والذي سيضم إجمالا أكثر من عشرة أحزاب ب 248 مقعدا في مجلس النواب، الذي يبلغ عدد كامل أعضائه 460 عضوا. ومن شأن تولي المعارضة الليبرالية مقاليد السلطة أن يسفر عن تحول سياسي واسع في بولندا، وهو ما يتعارض مع الرؤية الكاثوليكية القومية المتشددة التي يتبناها حزب القانون والعدالة للبلاد. أما بالنسبة للناخبين الذين صوتوا لصالح أحزاب المعارضة، فمن شأن إنهاء عهد حزب القانون والعدالة أيضا أن يساعد في استعادة سمعة بولندا على الساحة الدولية. وتعهد توسك بإعادة بناء العلاقات مع بروكسل، والإفراج عن أموال الاتحاد الأوروبي التي جمدها التكتل بسبب الخلاف مع وارسو بشأن سيادة القانون في بولندا. ووصف بيوتر بوراس، رئيس مكتب "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية" في وارسو، وهو مؤسسة بحثية أوروبية، الانتخابات بأنها "انتصار للديمقراطية والليبرالية"، حيث هيمنت عليها قضايا شملت الحرب الروسية الأوكرانية، والمهاجرين، وحقوق المرأة. ويمثل انتصار المعارضة المؤيدة لأوروبا أهمية كبيرة، في ظل اتهام حزب القانون والعدالة بخلق ظروف غير متكافئة للغاية. وخلص مراقبو الانتخابات إلى أن حزب القانون والعدالة استغل ما يتمتع به من قوة إعلامية. وقالت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا: "خلصت بعثة المراقبين إلى أنه في حين أعطى التلفزيون العام فترات ظهور مجانية لجميع المتنافسين، سعت تغطيته السياسية إلى الترويج بشكل واضح للحزب الحاكم وسياساته، كما أظهرت في الوقت نفسه عداء صريحا نحو المعارضة". • "مطاردة المرتدين من الأحزاب الأخرى" أمر ممكن لن تسير عملية تشكيل حكومة جديدة بشكل سلس أو سريع: فلا يزال الأمر يعتمد على الرئيس البولندي أندريه دودا، وهو حليف لحزب القانون والعدالة، ويتوقع أن يمنحه تفويضا لتشكيل الحكومة. وفقط بمجرد أن يعيد حزب القانون والعدلة التفويض- على افتراض إخفاقه في تحقيق الأغلبية البرلمانية- سوف يمنح الرئيس دودا المهمة لدونالد توسك، زعيم المعارضة. وتوقع عمدة العاصمة البولندية وارسو رافال ترزاسكوفسكي، وهو شخصية بارزة في الائتلاف المدني الليبرالي، بزعامة توسك، أن يسعى حزب القانون والعدالة إلى تشكيل حكومة جديدة، وإلى "مطاردة المرتدين من الأحزاب الأخرى" لكسب مزيد من الحلفاء من هذه الأحزاب. واستبعد ترزاسكوفسكي في تصريحات أدلى بها للتلفزيون البولندي إمكانية حصول الحزب على ما يكفي من المتحولين عن أحزاب أخرى. وحذر وزير التعليم برزيميسلاف تشارنيك، الذي ينتمي لحزب القانون والعدالة، من أن "الحرب على وشك أن تبدأ"، في إشارة إلى المناورات التي سيلجأ إليها الحزب لكسب الخصوم إلى صفه. ورغم ذلك، أشار خبراء إلى أن مثل هذا التحالف غير المتجانس بقيادة حزب القانون والعدالة، ربما يكون غير فعال، وقد يسقط ضحية للاقتتال الداخلي. • بولندا تعود إلى المشروع الأوروبي لاقت النتائج الأولية لانتخابات بولندا ارتياحا في أرجاء الاتحاد الأوروبي- وسوف يكون لها تداعيات على المديين القصير والمتوسط في بروكسل- وهو ما من شأنه أن يهدئ بشكل جزئي المخاوف من صعود التيار اليميني في أنحاء أوروبا. وقد مُنيَ ما يسمى ب"محور فيشجراد" - بولندا والمجر وسلوفاكيا وجمهورية التشيك – بخسائر جراء الانتخابات البولندية، حيث فقد رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان حليفا رئيسيا في تحديه لقيم الاتحاد الأوروبي. وأعلن مانفريد فيبر، رئيس حزب الشعب الأوروبي المحافظ- أكبر مجموعة داخل البرلمان الأوروبي- أن "بولندا قد عادت". وكان حزب القانون والعدالة منذ عام 2015، أحد الأيادي المخربة الرئيسية لجهود الاتحاد الأوروبي التي سعىت إلى إصلاح سياسة الهجرة واللجوء الخاصة بالتكتل. وأعلن رئيس الوزراء البولندي ماتيوش مورافيتسكي قبل عامين أن قانون الاتحاد الأوروبي الذي يهدف إلى نقض التشريعات الوطنية "يتعارض" مع دستور بلاده. واعتبرت دول أخرى أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وبينها فرنسا، ذلك بمثابة هجوم على التكتل، وما يمثله. وتم جر بولندا إلى محكمة العدل الأوروبية، حيث لا تزال المعركة القانونية مستمرة. وقالت المحللة السياسية رامونا كومان، من جامعة بروكسل الحرة، إنه في الوقت الذي اشتكت فيه الدول، بشكل منفرد، في كثير من الأحيان من أن الاتحاد الأوروبي يسحق مصالحها، "ذهبت حكومتا بولندا والمجر إلى أبعد من ذلك بكثير، وتحدت الدولتان قانونية وشرعية الاتحاد الأوروبي نفسه". وقال لوكاس ماسيك، رئيس "مركز أوروبا الكبرى" في معهد ديلور البحثي بباريس، إن الاتحاد الأوروبي يوشك أن يستعيد "شريكا أكثر تصالحية وإيجابية، وانفتاحا على التوافق". غير أن ماسيك حذرمن أنه "لن يتغير كل شيء جذريا. سوف تكون هناك مرحلة انتقالية، مع هامش أقل للمناورة".