إذا كنت من المهتمين بمستقبل إسرائيل، فإنك تحتاج فحسب إلى معرفة بند إحصائى واحد، هو أن اليهود الأصوليين والعرب يمثلون نحو نصف تلاميذ الصف الأول الابتدائى فى إسرائيل. وتشهد هذه النسبة تزايدا. وإذا نظرنا إلى المستقبل، فسنجد مجتمعا إسرائيليّا مختلفا للغاية قيد التكوين، حيث يصبح قلبه العلمانى أكثر ضيقا. واأسفاه. فعندما يكتمل هذا السيناريو، فسوف تواجه البلاد صعوبات متزايدة فى الدفاع عن نفسها وتعزيز اقتصادها. يجرى إعفاء عرب إسرائيل واليهود المتطرفين بها من الخدمة العسكرية، كما أنهم يمثلون بدرجة أقل فى قوة العمل. وفى ظل استمرار تزايد الوزن النسبى لهؤلاء فى المجتمع، تواجه إسرائيل خطر الانفجار الداخلى أمنيا واقتصاديا، حيث سيقل شيئا فشيئا عدد الجنود والعاملين الذين يحمون وينهضون بأعباء العدد المتزايد من السكان المستفيدين من الخدمات الاجتماعية. ويتوقف بقاء الدولة اليهودية على المدى الطويل على القدرة على تغيير التوجه الحالى الخاص بعدم مشاركة المواطنين العرب واليهود الأصوليين. يدرك قادة البلاد القنبلة الموقوتة التى فى أيديهم. وقد حذر الجنرال جابى أشكينازى رئيس هيئة الأركان العامة لقوات الدفاع الإسرائيلية من أنه بالنظر إلى التوجهات الديموجرافية الراهنة، فإنه «فى غضون عقد أو عقدين، لن يستدعى إلى الخدمة العسكرية سوى عدد قليل». وقال وزير المالية يوفال شتاينيتس إن التقاليد والخوف يدفعان النساء العرب إلى البقاء فى المنزل، والرجال الأصوليين من اليهود إلى دراسة التوراة. وأضاف أنه «يجب علينا زيادة العمالة من بين هؤلاء السكان». وطرح مسئول اقتصادى حكومى المسألة بطريقة أكثر جرأة حينما قال: «إننا نحمل فيلا فوق ظهورنا، وهو يزداد ثقلا. وربما لدينا 15 عاما كى نتعامل مع هذه المشكلة، وإلا فسوف يدفننا الفيل تحته». خلال عمرها البالغ 61 عاما، مرت إسرائيل بالعديد من مراحل التغير الاجتماعى غذتها موجات متتالية من الهجرة اليهودية الناجون من الهولوكوست، واليهود السفارديم من البلاد العربية والإسلامية، ومليون مهاجر من الاتحاد السوفيتى السابق، وعشرات الآلاف من المهاجرين من إثيوبيا. غير أن بحيرة المهاجرين الجدد قد جفت، وأصبح التغير الاجتماعى الحالى ذا طابع محلى صرف، ينبع من ارتفاع معدلات المواليد من المسلمين العرب واليهود الأصوليين. لقد صمم الأب المؤسس لإسرائيل، ديفيد بن جوريون، مجتمعا على نمط بوتقة الصهر، وأحضر يهودا من العديد من مناطق الشتات، محولا إياهم إلى إسرائيليين متحدثين بالعبرية. لقد أسس بن جوريون لأيديولوجيا تقوم على «الولاء للدولة»، واضعا الرموز والهيئات الوطنية وخاصة قوات الدفاع الإسرائيلية فوق التقاليد والدين. لكنه استبعد الجماعات غير الصهيونية، أى العرب الذين يشتبه فى ولائهم ويستثنون من التجنيد، واليهود الأصوليين ممن يريدون الاحتفاظ بطريقتهم الغريبة فى الحياة، عبر التعليم المستقل والإعفاء من التجنيد. ومع مرور الوقت، تزايد وزن الجماعتين وتأثيرهما. فقد نجح اليهود الأصوليون فى الضغط من أجل إقرار حوافز لرعاية الطفل، والإعفاء من تدريس المناهج الدراسية الأساسية أى الرياضيات واللغة الإنجليزية فى المدارس الدينية. وبالرغم من أن الجماعة العربية طالبت بدرجة أكبر من المساواة، فإنه على عكس اليهود الأصوليين، لم تكن الأحزاب العربية قط جزءا من الائتلاف الحكومى. لكن المعاملة الخاصة كان لها ثمن. فعلى المستوى الشخصى، يؤدى التحرر من الخدمة العسكرية إلى زيادة عدد الشباب لديك، لكنه يعوق الفرص أيضا. لأنه فى إسرائيل، يعمل الجيش كأساس للشبكات. ذلك أن وحدات النخبة والطيران فى الجيش الإسرائيلى تناظر جامعتى أكسفورد وكمبردج فى بريطانيا. (لقد خدم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحليفه السياسى الرئيسى إيهود باراك وزير الدفاع معا فى القوات الخاصة). وعندما يسعى عربى أو أصولى يهودى إلى الحصول على وظيفة، حتى إذا كان حاصلا على درجة جامعية، فإنه يظل مستبعدا، وغالبا ما يواجه التحامل والتمييز فى مكان العمل. وعلى المستوى القومى، يغذى النفوذ المتنامى للجماعات التى كانت هامشية فى السابق التوترات الاجتماعية والأصوات الداعية إلى قهر هؤلاء، خاصة فى فترات الهدوء على صعيد الصراع العربى الإسرائيلى الخارجى. لقد شن ثالث أكبر حزب فى إسرائيل، هو حزب إسرائيل بيتنا بزعامة وزير الخارجية أفيجدور ليبرمان، حملة من أجل فرض قسم الولاء كشرط مسبق للمواطنة. واستهدفت هذه الحملة عرب إسرائيل. وكان ليبرمان قد اقترح فى السابق نقل الأجزاء التى يقطنها سكان عرب فى إسرائيل إلى الدولة الفلسطينية المستقبلية. ويسعى الناشطون المناهضون للأصوليين اليهود إلى الحد من معدلات المواليد لدى هؤلاء، عبر وقف حوافز رعاية الطفل. وقد أتت هذه المحاولة بثمارها. فوفقا لدراسة أجراها البنك المركزى الإسرائيلى مؤخرا، اتضح أن زيادة حوافز رعاية الطفل فى التسعينيات أسفرت عن ارتفاع معدلات المواليد بين العرب واليهود الأصوليين. وبعد سنوات، أدى تخفيض نتنياهو لهذه الحوافز عندما كان وزيرا للمالية إلى انخفاض هذه المعدلات. كما يطالب المناهضون لليهود الأصوليين بفرض «المناهج الدراسية الأساسية» فى المدارس التى تمولها الحكومة كافة، قائلين إن الجهل بالرياضيات واللغة الإنجليزية يحكم على المرء بالبطالة، أو بالعمل فى وظائف متدنية. ويوافق نتنياهو على هذا الرأى. ففى كلمة أدلى بها فى مؤتمر للأعمال مؤخرا، دعا إلى تدريس الرياضيات واللغة الإنجليزية، بل والصينية أيضا، فى جميع المدارس الإسرائيلية، من أجل إعداد الأطفال لسوق الوظائف الحديثة. وقال إنه «يجب أن نستغل المواهب العظيمة لدى اليهود الأصوليين والأقليات (يقصد العرب) الذين ليسوا فى الوقت الراهن شركاء فى صناعة المعرفة لدينا». لكن كيف؟ قال لى نتنياهو مؤخرا إن التعليم والتحفيز على الوظائف هما مفتاح ذلك. وأضاف «لقد أعطيتهم بالفعل العصا» (يقصد تقليص الرعاية الاجتماعية) «والآن حان وقت الجزرة». غير أن سياسة نتنياهو تتدخل فى اقتصاده، حيث إن الأحزاب الأصولية تمثل شركاءه المخلصين فى الائتلاف الحكومى. وكان الثمن الذى دفعه فى مقابل تمكينهم إياه من أن يصبح رئيسا للوزراء للمرة الثانية هو رفع حوافز رعاية الطفل. وبالرغم من أن نتنياهو يرغب بالفعل فى أن يتعلم الأصوليون «المناهج الدراسية الأساسية»، فإنه لن يخاطر بمنصبه عبر الدخول فى مواجهة مع هؤلاء. كما أن الجماعة العربية لن تثق فى حكومة يمينية يمثل عدوها اللدود ليبرمان لاعبا أساسيا بها. ما العمل إذَن؟ لن يفلح إجبار العرب واليهود الأصوليين على التجنيد والتوظف. بل سوف يؤدى ذلك إلى تصاعد التوتر الاجتماعى. وإزاء إدراك هذه الحقيقة، يشعر السياسيون والاقتصاديون وخبراء السياسة العامة الإسرائيليون بالارتباك. فليس لديهم ما يقدمونه أكثر من بعض الخطوات المحدودة لتشجيع الاندماج والمشاركة فى قوة العمل، مع ملاحظة الفرق بين العرب الذين يرغبون فى العمل، لكنهم يجدون من الصعب الحصول على وظيفة وبين اليهود الأصوليين الذين تدفعهم مبادئهم الثقافية إلى تفضيل دراسة التوراة على التوظف. غير أن هناك علامات مشجعة تعود إلى الضرورة الاقتصادية. ذلك أن المئات من اليهود الأصوليين فى سن التجنيد يتطوعون للقيام بوظائف فنية فى الجيش، لأنهم يرون فى ذلك خطوة فى طريق الحياة المهنية فى المستقبل. ويعمل هؤلاء فى طهى الطعام المذبوح وفقا للشريعة اليهودية، كما يخدمون فى وحدات الجيش المقصورة على الرجال. وأصبحت اللكنات العربية تُسمَع بشكل متزايد فى أماكن العمل التى كانت «يهودية» فى السابق (مثل الصيدليات ومراكز الاتصال). وفى أحد عروض برنامج بيج براذر الأخيرة، استطاع متسابق عربى الصعود إلى النهائيات. غير أن إسرائيل لا تستطيع الانتظار إلى أن تتطور هذه البدايات المتواضعة وتتحول إلى ثورة اجتماعية أوسع. بل إن حماية البلاد من الانفجار الداخلى تتطلب تغييرا ضخما فى المفاهيم، والتخلص من الكراهية والتحامل الداخلى «القبلى». ويجب علينا نحن المنتمين إلى التيار السائد أن نغير من وجهة نظرنا بشأن نمو الأقليات، وأن نعاملهم باعتبارهم الحدود التالية للفرصة الاقتصادية والنمو. ذلك أنه إذا ازدهر هؤلاء، فإننا جميعا سوف نزدهر. ومن ثم، يجب علينا تغيير عاداتنا أيضا، عبر تجنيد العرب والعاملين من الأصوليين اليهود، وشراء منتجات الشركات المملوكة للأقليات، والسعى إلى المعرفة الشخصية من أجل تجاوز وضع المجموعات فى قوالب نمطية. ويجب على قادتنا الارتفاع فوق السياسات التافهة والتركيز على الاندماج الاجتماعى باعتباره هدفا داخليا أساسيا. وإذا أردنا لإسرائيل أن تحيا وتزدهر، فليس أمامنا خيار آخر. الجارديان